للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يعتزان بهذه الدركات الكفرية، ويبذلان في سبيل نشرها غاية البذل.

أمّا لماذا كل هذا التبجح بالإلحاد؟ فأمر يجيب عليه أحد نقاد الحداثة قائلًا: (لعل إشكالية الحداثة هي الأكثر لبسًا بين الإشكالات الفكرية والثقافية والفنية التي شهدتها لوحة الثقافة العربية الراهنة.

ويبدو أن هذا اللبس والغموض المحيط بها ليس سمة الحداثة في حقل تداولها الاصطلاحيّ والدلاليّ العربيّ فحسب، بل هي ولدت في سياقها الغربيّ متلبسة باللبس والشك والقلق، والعقل المزدحم بتمزقاته وانشراخه. . . حيث لا أفق سوى العدمية والاستلاب بعد إعلان نيتشه موت اللَّه وموت الجمال معه، والفن لم يعد يعوض عن الحياة بل يساهم في تعميق الاستلاب نحوها، فسيموت الفن تاركًا إيّانا في العراء. . .

إن الباحث وهو يجهد لاكتشاف خصائص ومميزات الحداثة وسط العوالم القاحلة والعراء الروحيّ إلّا من الشمس السوداء، وقمر الكارثة الشاحب، لابد أن يقر بصعوبة الإحاطة بكليتها عبر تناقضاتها وتفتت رؤيتها لذاتها وللعالم. . . وهي إذ تطمح لإلغاء الطبيعة عبر تشييئها التقنيّ (١) لا تلبث أن تنتحب حنينًا إلى فردوس الطبيعة المفقود، فقد اغتالت اللَّه والجمال والأخلاق والفن وراحت تندب وترثي ما اجترحته يداها. . .

إنها وعي المتاهة إذ تغدو المتاهة هي الحقيقة الواقعية الوحيدة بعد أن مات الإنسان بموت اللَّه عبر قرون من تلاشيه التدريجيّ. . .) (٢).

وهذه الإجابة تتضمن حقائق ثابتة عن الحداثة المحاربة للثبات، وأول هذه الحقائق أنها تجحد وجود اللَّه، وتسعى في إبطال الإيمان به، وإبعاد البشر عنه، وثانيها أن هذا المسعى جر على الحداثة وأتباعها المزيد من التمزق والشتات والضياع والتيه، وصدق اللَّه العظيم: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي


(١) أي: جعلها أشياء ومنتجات تقنية.
(٢) قضايا وشهادات ٢/ ٢٧٥ - ٢٧٦ من مقال لعبد الرزاق عيد بعنوان (الحداثة: عقيدة الأفاعي)، وفيه ثناء وإطراء للماركسية والزعم أنها أبدية وأنها العقلانية الوحيدة، ويتوقع مستقبلًا زاهرًا لها ويثني على الحداثة ورموزها وطموحاتها.

<<  <  ج: ص:  >  >>