للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قوة الحياة قد تنبض في الكون، ولكن الذهن هو أداتها والعقل هو ملمح البقاء وسيماؤه، وقد وردت على لسان أحد أبطال مسرحية جورج برناردشو النظرية الحديثية القائلة: "أنا موجود ولذلك أفكر، وليس أنا أفكر ولذلك أنا موجود" وهنا ظهر سبب جديد لإساءة الظن في العقل، فالعقل هو ثمرة من ثمار الطبيعية وهو يعني الفهم، فأمّا إذا كنت أؤمن باللَّه، أو أقول أن الكون كون منتظم، فالسبب في ذلك يعود إلى تنازع البقاء الذي أوجد هذه الملامح لعقلي، أما إذا جنح بي الهوى إلى الزعم بأن إيماني هذا هو مطلق في حقيقته، فعندئذٍ سأتذكر أن عقلي بالذات هو من نتاج الارتقاء، لذلك فهو في جوهره أداة بقاء، شأنه في ذلك شأن ذيل القرد أو رقبة الزرافة، تلك هي بعض الأفكار التي تنطوي عليها الداروينية) (١).

هذا توصيف من رجل لا يُمكن أن يوصف بأنه عدو للداروينية، وبه يتبين لنا أين وصلت الداروينية بالإنسان حين جعلت ميزته الأساسية مجرد نتاج للطبيعة كذيل القرد وعنق الزرافة سواء بسواء.

وقد استطرد المؤلف في ذكر آثار الداروينية على علم الاجتماع في الغرب تحت عنوان "الداروينية الاجتماعية" (٢) وبين المدى البعيد الذي تغلغلت فيه الداروينية في المجتمعات الغربية، إلى حد أنها أنتجت أنواعًا من السياسات العنصرية مثل النازية (٣).

وخلاصة القول: أن نظرية داروين نزعت الكرامة الإنسانية عن الإنسان، بعد نفي النفحة الإلهية عن خلقه ونشأته، وبذلك انهارت جميع الضوابط والتقاليد والأصول التي كانت أوروبا تعيش عليها حقبًا طويلة من الزمن، بغض النظر عن صواب، أو خطأ تلك التقاليد والضوابط، إلّا أنها كانت في النهاية معقلًا ومثابة تمنع الفوضى وتبقى للإنسان شيئًا من إنسانيته، وأقرب هذه الأمور أن التصور النصراني -على انحرافه وضلاله- كان يقول


(١) المصدر السابق: ص ٤٢٢.
(٢) انظر: المصدر السابق: ص ٤٢٦.
(٣) انظر: المصدر السابق: ص ٤٢٩.

<<  <  ج: ص:  >  >>