فهو لم يكتف أن أضحى "الثائر الحداثي" عنده رمزًا للحياة والمجد والبقاء والضياء، بل تجاوز قدر كل هذه المدائح الفارغة ليصبح خالقًا ويناديه في عبودية خاضعة وابتهاج طفوليّ بقوله:(يا خالق) وهو الذي سبق له أن صلى وانحنى للغيمة والخيمة، هذه الطقوس الحداثية الجديدة مجال التقديس والإجلال العباديّ.
كل هذا يؤكد أن هذا الاتجاه الذي يحاول أدونيس غرسه في دروب المسلمين ليس إلّا نحلة وثنية جديدة تتستر بالتحديث والتجديد ودعاوى التقدم والحضارة، إلّا أن ألفاظ ومصطلحات التعبد والتأله ولوازم التدين الوثني تأبى إلّا أن تبرز حقيقة هؤلاء.
ومن هذه اللوازم أنه يتصور نفسه وهو يبشر بدينه الحداثيّ يعيش في غربة وحصار وتفرد، متشبهًا في ذلك بأصحاب العقائد والأديان الذين يعيشون المشاعر نفسها ويصورون معاناة الغربة ويأخذون منها زادًا معنويًا لاستمرارهم.
أدونيس يتمثل هذه المعاناة وهو يقوم بدور الداعية الإلحاديّ الوثنيّ فيقول تحت عنوان "نشيد الغربة" مخاطبًا "فينيق (١) ":
(غربتك التي تميتُ غربتي
غربتك التي تحب تنتشي
غربتك التي تموت هلعًا لغيرها
غربتك التي تموت ولعًا بغيرها
(١) فينيق طائر أسطوريّ موطنه بعلبك، تقول الأكذوبة بأنه يحترق كلما أدركه الهرم، لينبعث فتيًا من رماده، ومن هنا أخذ الحداثيون هذه الأسطورة وطاروا بها اعتزازًا وانتماءً، والفينقيون قوم يتكلمون السامية سكنوا الشاطئ الشرقيّ من البحر المتوسط، واستقروا في فينيقيا وكانت أكبر مدنهم صور وصيدًا، وكانت لهم ثقافة وفلسفة ونظام دولة، ويعود الأوروبيون اليوم بجذورهم الفكرية والفلسفية إلى هؤلاء. انظر: الموسوعة العربية ٢/ ١٣٥٦، والديانات والعقائد ١/ ٢٢٦، والحداثة الأولى: ص ١٤٨ - ١٥٢.