القول الأول: الاستصناع مواعدة
أي أن الاستصناع مجرد وعد من الصانع بصنع الشيء المطلوب , ووعد من الطالب بقبوله عند التسليم وبدفع المقابل , فإذا تم ذلك يكون في النهاية بيعا بالتعاطي , وأصبح لازما. أما إن نكث أحد الطرفين بوعده فلا يلزمه القضاء بشيء لأن القضاء لا يتدخل في المواعيد.
واستدل أصحاب هذا القول بثبوت الخيار للصانع وللمستصنع , كما نص عليه أبو حنيفة ومتقدمو أصحابه حيث قد نصوا على أن لكل من الطرفين الخيار قبل أن يرى المستصنع الشيء المصنوع ويرضى به.
وثبوت الخيار للطرفين دليل أنه ليس هناك تعاقد , فلا يبقى إلا أنها مجرد مواعدة.
وهذا الرأي عند الحنفية حكي عن الحاكم الشهيد والصفار ومحمد بن سلمة وصاحب المنثور , فقد جاء عنهم: أن الاستصناع مواعدة , وإنما ينعقد بيعا بالتعاطي عند الفراغ من العمل , ولهذا كان للصانع ألا يعمل ولا يجبر عليه , بخلاف السلم , وللمستصنع ألا يقبل ما يأتي به الصانع , ويرجع عنه , ولا تلزم المعاملة.
القول الثاني: الاستصناع عقد بيع على عين
ذهب بعض الحنفية إلى أن الاستصناع عقد بيع على العين المستصنعة , ولم ينظر إلى العمل , بل نظر إلى أن الصانع باع شيئا في الذمة موصوفا بصفات كذا وكذا.
فالعمل ليس جزءا من المتعاقد عليه , بل العقد على العين الموصوفة.
وأيدوا قولهم هذا بما كان معروفا لدى بعض الحنفية قديما من أن الصانع لو أحضر شيئا مما صنعه هو قبل الاستصناع , أو صنعه غيره , فقبله المستصنع , جاز. فلو كان العقد منصبا على العمل أيضا لما جاز ذلك , لأن الشرط يقع على عمل في المستقبل لا في الماضي , فالذي جاء به الصانع مما صنعه قبل الاستصناع لا يكون مما التزم فيه بالشرط , وكذا ما صنعه غيره.
ثم اختلف أصحاب هذين القولين , فقال بعضهم هو بيع عين فيه الخيار للطرفين قبل الصنع , وقال آخرون لا خيار فيه.
القول الثالث: أنه بيع عمل أي إجارة
ذهب بعض الحنفية إلى أن الاستصناع بيع عمل , أي إجارة محضة , لأن الاستصناع طلب الصنعة , والصنعة عمل الصانع , فهذا هو المعقود عليه.
وأما المادة التي يحتاج إليها في الصنعة فهي بمنزلة الآلة للعمل , كما أن التعاقد على الصبغ إجارة , وإن كانت عملية الصبغ تحتاج إلى أن يدخل الصباغ فيها من عنده المواد الملونة , وذلك لا يخرج العقد عن أن يكون إجارة حقيقية , فكذلك المواد التي يحتاج إليها الصانع تدخل تبعا , ولا يخرج الاستصناع بذلك عن أن يكون إجارة حقيقية.
القول الرابع: الاستصناع إجارة ابتداء , بيع انتهاء.
أي أن الاستصناع عقد بين الآمر والصانع على أن يقوم الأخير بالعمل في العين , والعقد على العمل إجارة , فإذا قام الصانع بالعمل وسلم العين مصنوعة إلى الآمر كان التسليم على أنه مبيع بالثمن , وينعقد بيعا انعقادا تقديريا قبل رؤية الآمر له بفترة زمنية , لا بعد الرؤية.
والذين ذهبوا إلى هذا الرأي أرادوا أن يجمعوا بين ما ورد عن أئمة الحنفية أن الصانع إذا مات قبل تسليم المعمول بطل الاستصناع , فلو كان الاستصناع بيعا من أول انعقاده لما بطل , كالسلم , لا يبطل بموت المسلم , لأن عقد البيع لا يبطل بالموت , بل يكون للمشتري حق استيفاء المبيع من التركة.
والأمر الثاني ما ورد عن محمد بن الحسن أن للمستصنع الخيار إذا رأي المصنوع. قالوا فلو كان الاستصناع إجارة على الإطلاق لما كان له الخيار , لأن خيار الرؤية إنما هو في البيع لا في الإجارة.
وكان الجمع بين الأمرين بأن قالوا: ينعقد الاستصناع إجارة من أول الأمر , فتنطبق عليه أحكام الإجارة , ثم إذا أتم الصانع صنعته وأحضر المصنوع واستلمه الآمر , كان التسليم له على أنه مبيع لا مأجور فيه , إذ المبيع هو الذي فيه خيار الرؤية للمشتري.
وقدر انعقاد البيع قبل الرؤية لأنه لو انعقد بيعا بعد الرؤية لم يكن للمشترى الخيار , لأن حديث خيار الرؤية جعل الخيار لمن اشترى ما لم يره.
القول الخامس: الاستصناع بيع عين شرط فيه العمل
والقائلون بهذا أرادوا أن حقيقة الاستصناع أنه بيع حقيقي , أي بيع للمواد التي تدخل في المصنوع , لكن اشترط المستصنع على الصانع أن يقوم في المواد العينية بعمل هو تركيبها وتهيئتها على الصورة التي يريدها المستصنع , وطبقا للأصول الفنية التي يعتبرها أهل تلك المهنة.
فالعمل ليس من حقيقة الاستصناع , لكنه مشروط فيه كما قد يشترط مشتري الأثاث على البائع إيصاله إلى منزل المشترى. وهذا النوع من الشروط ممنوع عند الحنفية من حيث الأصل , لأنه خارج عن حقيقة البيع , لكنهم يجيزون من ذلك ما جرت العادة والعرف بأن يقوم به أحد العاقدين لمصلحة الآخر. والاستصناع من هذا النوع عند القائلين بهذا القول.
القول السادس: الاستصناع عقد مستقل
بعد النظر في الأقوال المتقدمة لعلماء الحنفية في تكييف حقيقة الاستصناع , يتبين أن الاستصناع وإن كان جائزا عندهم اتفاقا - ما عدا زفر - إلا أنهم ذهبوا في تكييفه مذاهب لم يسلم أي منها عن اعتراض.
والذي مال إليه جمع من الفقهاء في العصر الحاضر , أن الاستصناع عقد مستقل لا يدخل تحت أي من العقود المسماة الأخرى المتعارف عليها , بل هو عقد له شخصيته المستقلة , وله أحكامه الخاصة.
فقد جاء في بحث الشيخ مصطفى الزرقا في الاستصناع: أن الاستصناع نوع من البيوع مستقل لا يدخل في أحد الأنواع الأخرى كالصرف والسلم , وليس أيضا من البيع العادي (المطلق) . فكما أن الصرف والسلم نوعان من البيع , وهما عقدان مستقلان , ولهما أحكام خاصة لا تجرى في البيع المطلق , فكذلك الاستصناع.
وجاء في بحث الدكتور على محيي الدين القره داغي الاستصناع هو ما إذا طلب المستصنع من الصانع صنع شيء موصوف في الذمة خلال فترة قصيرة أو طويلة , سواء كان المستصنع عين المصنوع منه بذاته أم لا , وسواء كان المصنوع منه موجودا أثناء العقد أم لا. فمحل عقد الاستصناع هو العين والعمل معا من الصانع. فالعقد بهذه الصورة ليس بيعا , ولا سلما , ولا إجارة , ولا غيرها , وإنما هو عقد مستقل خاص له شروطه الخاصة به , وآثاره الخاصة به , ولا ينبغي صهره في بوتقة عقد آخر. فالاستصناع عقد مستقل خاص محله العين والعمل معا , وبذلك يمتاز عن البيع الذي محله العين , وعن الإجارة التي محلها العمل , وعن السلم الذي محله العين الموصوفة في الذمة.
وجاء في قرار مجلس مجمع الفقه الإسلامي في مؤتمره السابع بجدة (١٤١٢هـ الموافق ١٩٩٢م) : إن عقد الاستصناع هو عقد وارد على العمل والعين في الذمة , ملزم للطرفين , إذا توافرت فيه الأركان والشروط.
ويمكن أن يقال إن القوانين المعاصرة اعتبرته كذلك فإنها حين ذكرت أحكامه لم تذكرها ضمن أحكام البيوع , ولا ضمن أحكام الإجارة , بل جعلته نوعا من أنواع (المقاولة) , والمقاولة منها ما هو إجارة محضة , ومنها ما هو استصناع حيث تكون المواد من الصانع.
ولعل أقرب من اقترب من هذا القول من الفقهاء صاحب المحيط البرهاني حيث يرى أنه لا بد من اعتبار العمل والعين في الاستصناع. فقد جاء في ج ٢ ص ٥٧٥: المستصنع طلب منه العمل والعين جميعا فلا بد من اعتبارهما جميعا.
أهمية القول بأن الاستصناع عقد مستقل
يتضح بأن الرأي المعاصر القائل بكون الاستصناع عقد مستقل , يختلف هذا عن القول الذي يجعل الاستصناع بيعا حقيقيا والعمل شرط فيه , أي زائد على حقيقته وهو قول فيه من المؤاخذة ما فيه لسببين:
- المستصنع لم يشتر المواد , ولو أنه اشتراها وجب أن تكون معلومة متميزة وتدخل في ملك المستصنع , وهذا مجاف لطبيعة الاستصناع , فإن الذي يدخل في ملك المستصنع هو الشيء المصنوع بعد تمام صنعه وتسليمه , أما المواد فلا تدخل في ملكه قبل ذلك , ولا علاقة له بها.
- العمل وهو الصنعة أمر أساسي مطلوب في الاستصناع , وليس شرطا ملحقا , كما في نقل الأثاث لمن اشتراه.
وعلى أساس هذا النظر المعاصر , يكون المعقود عليه في الاستصناع المادة والعمل دون فصل لأحدهما عن الآخر , ودون تميز , فكلاهما داخل في حقيقة الاستصناع. ولكنه يكون:
- أشبه بعقد البيع لدخول المادة فيه.
- أشبه بعقد الإجارة لدخول العمل فيه ,
- أشبه بعقد السلم لكونه في الذمة.
وإنما اختلفت أقوال الفقهاء , فحمله بعضهم على البيع , وبعضهم على الإجارة , وبعضهم - وهم غير الحنفية - على السلم , لملاحظة تلك الأنواع من الشبه , لكن لكونه في الحقيقة ليس أيا من هذه الأنواع الثلاثة من العقود (البيع والإجارة والسلم) لم يسلم أي من الأقوال عن الاعتراض.
وبناء على ذلك , لا ينبغي في الاستصناع استعمال عبارات: البائع , والمشتري , والثمن. وإنما يقال: المستصنع , والصانع أو المقاول , والبدل النقدي. كما لا يقال في الإجارة: البائع , والمشتري , والثمن , وإن كانت الإجارة في حقيقتها نوعا خاصا من البيع , هو بيع المنفعة , لكن لتميزها عن البيع المطلق انفردت باصطلاحاتها الخاصة. وإن كان يمكن في الاستصناع استعمال العبارات المذكورة على سبيل التساهل.