بدائع الصنائع (٦ / ٥٤ - ٥٥) /٥٠ ما يبطل به الصلح أشياء: (منها) الإقالة فيما سوى القصاص. لأن ما سوى القصاص لا يخلو عن معنى معاوضة المال بالمال , فكان محتملا للفسخ , كالبيع ونحوه. فأما في القصاص , فالصلح فيه إسقاط محض , لأنه عفو , والعفو إسقاط , فلا يحتمل الفسخ كالطلاق ونحوه.
(ومنها) لحاق المرتد بدار الحرب أو موته على الردة عند أبي حنيفة بناء على أن تصرفات المرتد موقوفة عنده على الإسلام أو اللحاق بدار الحرب والموت , فإن أسلم نفذ , وإن لحق بدار الحرب وقضى القاضي به , أو قتل أو مات على الردة تبطل. وعندهما نافذة , والمرتدة إذا لحقت بدار الحرب يبطل من صلحها ما يبطل من صلح الحربية , لأن حكمها حكم الحربية.
(ومنها) الرد بخيار العيب والرؤية , لأنه يفسخ العقد لما علم.
(ومنها) الاستحقاق. وأنه ليس إبطالا حقيقة , بل هو بيان أن الصلح لم يصح أصلا , لا أنه بطل بعد الصحة , إلا أنه إبطال من حيث الظاهر , لنفاذ الصلح ظاهرا , فيجوز إلحاقه بهذا القسم , لكنه ليس بإبطال حقيقة , فكان إلحاقه بأقسام الشرائط على ما ذكرنا أولي وأقرب إلى الصناعة والفقه , فكان أولي.
(ومنها) هلاك أحد المتعاقدين في الصلح على المنافع قبل انقضاء المدة , لأنه بمعنى الإجارة , وأنها تبطل بموت أحد المتعاقدين.
وأما هلاك ما وقع الصلح على منفعته , هل يوجب بطلان الصلح , فلا يخلو: إما إن كان حيوانا كالعبد والدابة أو غير حيوان كالدار والبيت. فإن كان حيوانا لا يخلو إما أن يهلك بنفسه أو باستهلاك. فإن هلك بنفسه يبطل الصلح إجماعا , وإن هلك باستهلاك , فلا يخلو من ثلاثة أوجه: أما أن استهلكه أجنبي وأما أن استهلكه المدعى عليه وأما أن استهلكه المدعي. فإن استهلكه أجنبي بطل الصلح عند محمد وقال أبو يوسف لا يبطل. ولكن للمدعي الخيار إن شاء نقض الصلح , وإن شاء اشترى له بقيمته عبدا يخدمه إلى المدة المضروبة. . وإن استهلكه المدعى عليه بأن قتله أو كان عبدا فأعتقه يبطل الصلح أيضا. وقيل هذا قول محمد فأما على أصل أبي يوسف فلا يبطل , وتلزمه القيمة ليشترى له بها عبدا آخر يخدمه إلى المدة المشروطة. كذا لو استهلكه المدعي بطل الصلح عند محمد وعند أبي يوسف لا يبطل , وتؤخذ من المدعي قيمة العبد ويشتري عبدا آخر يخدمه , وهل يثبت الخيار للمدعي في نقض الصلح على مذهبه , فيه نظر.
هذا إذا كان الصلح على منافع الحيوان , فأما إذا كان على سكنى بين فهلك بنفسه بأن انهدم , أو باستهلاك بأن هدمه غيره لا يبطل الصلح , ولكن لصاحب السكنى وهو المدعي الخيار: إن شاء بنى له صاحب البيت بيتا آخر يسكنه إلى المدة المضروبة , وإن شاء نقض الصلح.
شرح الخرشي (٦ / ٥ - ٦)
إن الظالم إذا أقر ببطلان دعواه بعد وقوع الصلح , فإن للمظلوم نقضه بلا خلاف لأنه كالمغلوب على الصلح بإنكار المدعى عليه , وإن شاء أمضاه , وضمان ما قبضه كل منهما من قابضه.
الثانية: أن تشهد بينة للمظلوم على الظالم , لم يعلمها المظلوم حين الصلح , فله نقضه على المشهور , وهو مذهب المدونة , ولا بد من حلفه على عدم العلم.
الثالثة: من صالح وله بينة غائبة لا يعلمها , وهي بعيدة جدا , وأشهد أنه يقوم بها , سواء أعلن بالإشهاد , بأن يكون عند الحاكم أو لم يعلن به كما يأتي في قوله بعد كمن لم يعلن. وما ذكرناه من التقييد بكونها بعيدة جدا نحوه في المواق , ومقتضاه أن البعيدة لا جدا كالقريبة في أن حكمها كالحاضرة , فلا يقوم بها ولو أشهد أنه يقوم بها , والبعد جدا كأفريقية أي من المدينة أو من مكة أو الأندلس من خراسان.
الرابعة: من صالح لعدم وثيقته , ثم وجدها بعد الصلح على الإنكار , وقد أشهد أنه يقوم بها إن وجدها , فله نقض الصلح حينئذ , كالبينة التي علمها , وأما إن نسيها حال الصلح ثم وجدها , فإنه يحلف ويقوم بها , كالبينة التي يعلمها. والضمير في قوله فله للمظلوم , أي فللمظلوم نقض الصلح , وله إمضاؤه.
الخامسة: من ادعى على شخص بشيء معلوم فأنكره , فأشهد سرا أن بينته غائبة بعيدة الغيبة , وأنه إنما يصالح لأجل بعد غيبة بينته , وأنه إن قدمت قام بها , والحال أنه لم يعلن بالإشهاد عند الحاكم , ثم صالحه , ثم قدمت بينته , فله القيام بها , وينقض الصلح , كمن أعلن وأشهد.
السادسة: أن يكون المدعي عليه يقر بالحق سرا , ويجحده علانية , فأشهد المدعي بينة على جحده علانية , ثم صالحه على التأخير , وأشهد بينة لم يعلم بها المدي عليه على أنه غير ملتزم للتأخير , وأنه إنما فعل ذلك الصلح ليقر له علانية , فإنه يعمل بذلك. فالضمير في يقر للمدعى عليه. واتفق الناصر اللقاني وشيخه برهان الدين اللقاني على أن له نقض الصلح في هذه المسائل.