الحسن البصري في الأثر بعده، وذكر أيضا بصرهم بدينهم أكثر من بصر من بعدهم بدنياهم، وزهدهم في الحلال أكثر من زهد من بعدهم في الحرام، ثم بيّن أثر أبي سلمة أنهم كانوا على سماحة الإسلام بلا رهبانية ولا تنطع، من تناشد الأشعار، والجلوس في المجالس العامة، وذكر جاهليتهم، لكن كل هذا في حدود المباح، ولذلك بيّن أنهم إذا أُريدوا على دينهم لم يقاوم غضبهم، وقد بيّن عبد اللَّه بن مسعود سبب هذه الأفضلية والخيرية ولو كان من بعدهم أكثر صلاة وصياما، بأنه زهدهم في الدنيا ورغبتهم في الآخرة، وسمى الحسن البصري هذا منهم كيسا، حيث بيّن أنهم في أمر الدنيا أخذوا صفوها، وتركوا كدرها، وفي أمر الآخرة فلا تتعاظم عندهم حسنة عملوها، ولا يتصاغر ذنب اقترفوه، ثم تضمنت الآثار بعد هذا بعض تفاصيل هذه الأفضلية، فقد كانوا إذا أسلموا أقبلوا على الآخرة، وتركوا الدنيا لأهل الشرك، ولم يكن لهم ما يأكلون إلا ورق الأشجار والحبلة والسمر، حتى كان أحدهم يضع كما تضع العترة، وتقرح أشداقهم من ذلك، ويطول بهم زمن الجوع إلى ثلاثة أيام، فيشوي أحدهم الجلدة فيأكلها، وقد لا يجدها فيحزم بطنه بالحجر، بل يلتقط بعضهم البردة ثم يقسمها مع أخ له اثنين، ولم يكن أحدهم أحق بديناره من أخيه المسلم، ولذلك كان بعض من تأخر به الموت فعاش إلى أن أدرك زمن التابعين، يتحسّر على تلك الأيام، وأولئك الأقوام، فأجاب أنس من سأل عن الزاهدين في الدنيا والراغبين في الآخرة بأنهم أهل بدر.