للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

المشْيَةِ ولو عند إقباله على الملوك ونحوهم، وقيامهم له بمجرد وقوع بصرهم عليه، فإنه لا يزيد على المعتاد أيضًا، وربما نقم الأعداءُ عليه ذلك، ذا رشاقةٍ زائدةٍ، بحيث رأيتُه مرَّة توضأ مِنْ فِسقيَّةِ المنكوتمرية، فما رأيت أرشقَ منه في جلُوسه على الحجر واغترافه الماء، وصعدنا في خدمته قُبَيلَ وفاته لعيادة الشَّيخ يحيى العجيسي بالنَّاصرية، فصار يصعدُ درجتين درجتين، ويقول: إنَّ ذلك أروحُ له.

هذا مع سكون ووقار وأبهة وثبات، تاركًا لما لا يعنيه، طارحًا للتكلف، كثيرَ الصَّمت إلا لضرورة، شديد الحياء، لا يواجِه أحدًا بمكروهٍ، مع الصَّدع بالحقِّ، وقوَّة النفس فيه، فاشيًا للسَّلام [ما لم يكن تاليًا] (١) خفيف الوضوء في تمام، سريع عقد النية، بل يعيب على مَنْ يتردَّد فيها، وكذا مَنْ يبالغ في إخراج الحروف بتقطيع الكلمة، ومَنْ يُكثِر صبَّ الماء في وضوئه، لا يتأنَّقُ في مأكله ومشربه، ولا في آنيته، بل مهما قدم له عياله مِنْ ذلك رضيَهُ، ولو كان صائمًا لا يختص عنهم بمزيدِ أمرٍ لنفسه، ويأكل العلقة منَ الطَّعام واليسير مِنَ الغذاء، لكنه كان يتقوَّى بالسكر، ويميل إلى قصب السُّكر ميلًا قويًا، ويكثر النقل، لا يزالُ بجانبه عُلبةٌ فيها شيءٌ كثير منه، بحيث يصعد إليها النَّمل وشبهه.

وسمعته يقول: أنا لا أشبع مِنْ أكل ألوان مختلفة، إنَّما أشبعُ مِنْ لون واحد. ونحو هذا قولُ بعض مَنْ أخذت عنه: إنَّما يشبع مِنْ ائتدم بالبطِّيخ والجبن بالمروءة.

وكذا كان لا يتأنَّقُ في الرفيع مِنَ الثِّياب، ومع ذلك فأموره كلها بهجةٌ نيِّرةٌ إلى الغاية، قصير الثياب، حسن العمة، ظريف العذبة. وبلغني أنَّه كان يُرخيها على كتفه قبل القضاء وبعد استقراره في مشيخة البيبرسية، ما رأيته لبس طيلسانًا قطُّ سوى مرَّةٍ واحدةٍ في مرض موته، فما رأيتُ أبهج منه فيه، وحكى لنا حينئذٍ حكايةً اقتضت منعه للُبسِهِ قدَّمناها في الباب الثاني (٢).


(١) ما بين حاصرتين لم يرد في (ب)، وفي (ط): "قاليًا".
(٢) ١/ ١٥٢.