وأما صبره على الطلبة، فشيءٌ لا يُدْرَكُ وصفُه، حتى إنَّه مكث في مرض موته مدَّةً وهو لا يُعْلِمُ بعضَ مَنْ يقرأ عليه ليلًا بذلك، مراعاة لخاطره، وهو يتحمل المشقة إلى أن أعيى، فأعلمه بلطف.
[[عاريته للكتب]]
وأما عاريته للكتب، فأمرٌ انفرد به عَنْ سائر أهل مصره، حتى لا أعلم نظيره في ذلك، بل كان يعيرها لمن يُسافر بها، وربما افتدى كتب المحمودية التي تحت نظره بها. حتى كان رحمه اللَّه يقول لي: لا تأخُذ مِنْ كتب الخزانة إلا ما ليس في كُتبي، بل أُقسِمُ باللَّه أَنَّه نهاني [في وقت](١) عن الاستعارة مِنْ غيره.
ورأيت معه في رمضان مِنْ السَّنة التي توفي فيها مجلدًا كنتُ أحبُّ الوقوف عليه، فالتمستُ منه عاريته بعد فراغ أربه مِنْ مطالعته، فقال: نعم. ومضى بقيَّة الشَّهر وشوال وذو القعدة، واتفق دخولي مع الجماعة لعيادته في ذي الحجة، فأشار إليَّ فأخذته مِنْ بين كتبه. هذا وهو ضعيف، وقد مضى مِنْ سؤالي له نحو ثلاثة أشهر ولم ينسَ ذلك. وباللَّه قد رأيت بعض أصحابنا تأثر مِنْ ذلك، فإنا للَّه.
وأرسلت إليه مرة أطلبُ منه نسخةً مِنْ بعض الأجزاء الحديثية مُفْرَدَة، فكأنه ما تيسَّرت له إذ ذاك، فقطع نسخةً بخطه مِنْ مجموع مِنْ مجاميعه، وأرسل بها إليَّ في الحال. وكأنه -واللَّه أعلم- فهم توجُّهي بها لبعض الأماكن البعيدة، وقصدت خِفَّة الحمل.
ولم يكن غالبًا يمضي يوم مِنَ الأيام إلا وأستعيرُ منه شيئًا مِنَ الكتب، وهو يُسْعِفُ بكلِّ ما ألتمِسَهُ منه مِنْ ذلك، ولا يُظْهِرُ مُللًا، بل واللَّه لو لم أفهم منه محبَّة ذلك. ما أكثرتُ منه.