وكان -رحمه اللَّه- لا تمنعه الكتابة عن فهم ما يسمعه من علم وحديث، حتى إنَّه اجتمع بمؤرخ العصر التقي المقريزي، فتحدثا، وشيخُنا مشغولٌ بالكتابة، فرام التقيُّ قطعَ الحديث لئلَّا يشغله عمَّا هو فيه. فقال له: إنَّ ذلك لا يمنعني عَنِ الإصغاء والفهم لما تقوله، بل ربما أكون حين الكتابة أحضرَ بالًا منِّي عند عدمها في بعض الأوقات.
قلت: وقد رأينا مِنْ ذلك العجب، وحكاية ابن التَّنسي الآتية قبيل ما امتُدح به من الباب الثالث مع شبهها شاهدة لذلك أيضًا.
[[الصحبة الطيبة من طلبة العلم:]]
ومنها الرفاق الذين كانوا غاية في الديانة والتواضع والاعتناء بالشأن والاهتمام بفنونه، والبعد عَنِ التَّوغُّل في الغِلِّ والحسد والكتمان، وتكرُّر ذكر ما يقتضي الامتنان. فذا يُعِينُ رفيقه نوبةً بالقراءة، ومرَّة بالكتابة، وأخرى بالعارِيَّة، ووقتًا بالمذاكرة، ومرة بالتَّنبيه على ما السَّلامةُ منه مختصةٌ بالمعصومين، والآخر يفعل مع رفيقه أيضًا كذلك. ويجمل كلُّ واحدٍ منهم الآخر بقلمه ولسانه، ويوجه ما ظاهره القبيحُ مِنْ قول أو فعل بالتوجيه المرضي، حتى يصرفه عما يخالفه، ويثني مَنْ تأخَّرت وفاته على صاحبه الثناءَ الجميل، وربما يرثيه إن أحسن. ولتلبُّسِهم بذلك، كانت لهم جلالة ووجاهة، وفيهم كثرة.
فأين هؤلاء ممن إذا كتب له رفيقُه تجاه خطه: صوابُه كذا، أو قال له في حال قراءته: سقط عليك كذا، أو كتب له على بعض ما يطالعه مِنْ خطِّه على جاري عادة المستفيدين بعضهم من بعض:"فرغه داعيًا"، يضمر ذلك في نفسه إلى أن ينتقم بما يكون قصاصًا عَنْ أعظم الجنايات، بحيث يكتب لمن قال له:"فرغه داعيًا": ما أرقعك، ليت شعري، داعيًا له أو عليه؟ ويهجو صاحبه نظمًا ونثرًا، حتى بعد وفاته، مع علمه بتحريم التعرُّضِ لمساوىء الأموات، إن اتَّصف المهجوّ بما تعرَّض له. وإذا رأى رفيقه توارد هو وإياه على نقل شيء أو التصرُّف فيه أو الجمع بين ما يقتضي التنافر أو نحو ذلك، يأخذ في الخطابة بأن هذا سرق كلامي. هذا مع كون الواقع العكس.