وقد كان العرب مخصوصين بالحفظ، مطبوعين عليه؛ بحيث كان بعضهم يحفظ أشعار بعضٍ في سمعة واحدة، كما جاء أن ابن عباس رضي اللَّه عنهما حفظ قصيدة عمر بن أبي ربيعة (أمن آل نُعْم أنت غاد فمبكُر) في سَمْعةٍ واحدة، وعن ابن شهاب أنه كان يقول: إنِّي لأمّرُّ بالبقيع، فأسدُّ أذنيَّ مخافة أن يدخُلَ فيها شيءٌ من الخنا، فواللَّه ما دخل أُذنيَّ شيءٌ قطُّ فنسيته، وعن الشعبيِّ نحوه، وليس أحد اليوم على هذا، نعم بلغنا عن البُلْقَيني أنه حفظ قصيدةً مِن مرةٍ واحدة في آخرين، وهو نادر جدًّا، ونحوه حفظ الزين العراقي نصف "الحاوي الصغير" في اثني عشر يومًا.
قال الخطيب: ولقلَّة مَنْ يُوجد من أهل الحفظ والإتقان، قيل: إن أحدهم يُولَدُ بعد بُرهةٍ مِنَ الزمان، ثم أسند من طريق موسى بن داود، عن أبي مشعر، قال: الحافظ يُولَدُ في بعض (١) الزمان، وعن هُشَيْم قال: من يحفظُ الحديث قليل، ثم قال: هم أقلُّ مِنْ ذلك، انتهى.
ولهذا قال أبو محمد السمرقنديُّ: سمعت أبا بكر الخطيب يقول: لم أر أحدًا أطلق عليه اسم الحفظ غير رجلين: أبو نُعَيْم الأصفهاني، وأبو حازم العَبْدَوي.
ثم إنَّ الوصف بالحافظ، كما قاله الحافظ الخطيب رحمه اللَّه عند الإطلاق ينصرف إلى أهل الحديث خاصة، وهو سِمَةٌ لهم، لا يتعداهم، ولا يُوصَفُ بها أحد سواهم، لأن الراوي يقول: حدثنا فلان الحافظ، فيحسُن منه إطلاق ذلك، إذ كان مستعملًا عندهم، يوصف به علماء أهل النقل، ونُقّادهم، ولا يقول القارىء: لقنني فلان الحافظ، ولا النحوي: علَّمني فلان الحافظ، فهي أعلى صفات المحدثين، وأسمى درجات الناقلين، من وُجدت فيه قُبِلت أقاويله، وسُلِّم له تصحيح الحديث وتعليله، غير أنّ المستحقين لها يقلُّ معدودهم، ويعزّ بل يتعذر وجودهم، فهم في قلتهم بين