للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

أسند وصيته إليه أن يُخفي أوراقه إلى بعد عشرين سنة مِنْ مماته، فأجرى اللَّه عز وجل عليه سُنَّته في عباده، وألبسه ممَّا أضمره رداءً بين الناس عُرف به، بحيث لا أعلم -واللَّه- أحدًا مِنْ خلق اللَّه تعالى معه ظاهرًا وباطنًا، بل صرح هو غير مرَّة بقوله: ما صحبت أحدًا وفارقته وأنا طيِّبُ الخاطر منه سوى اثنين، قلت: وأحدهما غايةٌ في الإهمال. ولمَّا كثرت وقائعُ هذا الرجل، حَسُنَ التصدي لسيرته، وإفراد ذلك في تأليف، فالجزاء مِنْ جنس (١) العمل. ألهمنا اللَّه رشدَنا، وأعاذنا مِنْ شرور أنفسنا، بمنَّه وكرمه.

[[صفات المؤرخ]]

وقد قال صاحب الترجمة ما نصَّه: الذي يتصدَّى لكتابة التاريخ قسمان:

قسم يقصد ضبط الوقائع، فهو غير متقيِّد بصنف منه، ولكن يلزمه التحري في النقل (٢)، فلا يجزم إلا بما يتحققه، ولا يكتفي بالنَّقل الشائع، ولا سيما إن ترتب على ذلك مفسدة مِنَ الطَّعن في حقِّ أحدٍ من أهل العلم والصلاح، وإن كان في الواقعة أمر قادح في حقِّ المستور، فينبغي أن لا يُبالغ في إفشائه، ويكتفي بالإشارة، لئلا يكون المذكور وقعت منه فلتة، فإذا ضبطت عليه لزمه عارها أبدًا، فيحتاج المؤرِّخ أن يكون عارفًا بمقادير الناس وبأحوالهم وبمنازلهم، فلا يرفع الوضيع، ولا يضع الرفيع.

والقسم الثاني: مَنْ يقتصر على تراجم الناس، فمنهم من يعمِّم، ومنهم من يتقيَّد, وعلى كل منهما أن يسلُكَ المسلك المذكور في حقِّ مَنْ يترجمُهم، فالمشهور بالخير والدين والعلم لا يتَّبع مساوئه، فانه غير معصوم، والمستور قد تقدَّم حكمه، والمجاهر بالفسق والفجور إذا خُشي مِنْ ستر حاله ترتُّبُ مفسدة، كالاغترار بجاهه أو ماله أو نسبه، فيُضمُّ إلى مَنْ ليس على طريقته، فهذا يجوز له بهذا القصد أن يبين حاله بالنسبة لرفيقه أو أخيه أو قريبه، كأخوين مثلًا- اشتهرا بالعلم، وأحدهما كان مشهورًا بالعفّة


(١) في (أ، ب): "حسن".
(٢) في (ط): "الفعل"، تحريف.