للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ولو أطعت قلمي في إيراد ما عندي في ذلك من واحد، فضلًا عن أكثر، لامتلأ الكرَّاس، وضاقت الأنفاسُ، ولو تدبر مَنْ لعلَّه يعتمد هذا الصنع أزرى ذلك بفاعله، وستر ما عساه اشتمل عليه مِنْ فضيلة، وكون حامده مِنَ النَّاس يصير له ذامًا، لكان أبعدَ النَّاسِ عَنِ التلبُّسِ بهذه الأخلاق. نسأل اللَّه السلامة.

[عدم التردُّد إلى الكبراء:]

ومنها: كونه لم يتردَّد في غضون هذه المدة لأحد من رؤساء الشام ولا قضاتها، بل لم يكن حينئذٍ بدٌّ من الاجتماع بأحدٍ مِنَ الرؤساء مطلقًا، مع احتياجهم إلى مجالسته، واغتباطهم برؤيته، ولذيذ مخاطبته.

[[استثمار الوقت]]

إنما كانت همَّتُه المطالعة والقراءة والسماع والعبادة والتصنيف والإفادة، بحيث لم يكن يخلي لحظة مِنْ أوقاته عن شيء مِنْ ذلك، حتى في حال أكله وتوجُّهه وهو سالك كما حكى لي ذلك بعض رفقته الذين كانوا معه في رحلته، وإذا أراد اللَّه أمرًا هيّأ أسبابه.

وقد سمعته -رحمه اللَّه- يقول غير مرة: إنني لأتعجب مِمَّن يجلس خاليًا عن الاشتغال. هذا أو معناه.

ويدل على مصداق قوله: ما أخبرني به بعضُ أصحابنا أنَّه شاهده يومًا بالمدرسة الصالحية النجمية، وهو جالس في بعض بيوتها، ولم يكن عنده إذ ذاك شيءٌ مِنَ الكتب، فاستدعى مِنْ بعض مَنْ حضره مصحفًا، فبادر لذلك، فأخذ في التلاوة منه، فمرَّ فيه على سورة أخطأ الكاتبُ في عَدّ آيها، فكتب مقابلها بالهامش: الصوابُ كذا، أو بل عدَّتها كذا. فلم يسهل به -رضي اللَّه عنه- أن يجلس بطَّالًا. ولم يُخلِ المصحف مع ذلك - مِنْ فائدة.

وهكذا كان دأبُه في غالب ما يقف عليه مِنْ الكتب العلمية والأدبية وغيرها، كما سألمُّ بذكر شيء مِنْ ذلك في أثناء الباب الثالث (١) إن شاء اللَّه تعالى.


(١) ص ٣٧٧ - ٣٩٠ من هذا الجزء.