للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

ومما يدلُّ على عدم تضييع وقته بدون عبادة: أنه توجَّه مرةً للمدرسة المحمودية، فلم يجد مفتاحَها، كان قد سها عنه بمنزله، فأمر بإحضار نجَّارٍ، وشرع هو في الصلاة إلى أن انتهى النجارُ مِنْ فتح الباب. وقيل له: لو أرسلتَ، أحضرت المفتاح مِنَ البيت كان أقلَّ كلفة، فقال: هذا أسرع، ويحصل الانتفاعُ بالمفتاح الثاني.

وتوجه مرة للتفرُّج هو وصهره القاضي محب الدين ابن الأشقر في السَّماسم بالخانقاه، فأخرج مِنْ جيبه مصحفًا حمائليًّا، وشرع في التلاوة فيه.

وكان -رحمه اللَّه- إذا جلس مع الجماعة بعد العشاء وغيرها للمذاكرة، تكون السّبحة داخل كمِّه بحيث لا يراها أحد، ويستمرُّ يديرُها وهو يسبح أو يذكر غالب جلوسه. وربما تسقُطُ مِنْ كمِّه، فيتأثر لذلك، رغبة في إخفائه.

وكان حين كان يصلي الشيخ غرس الدين خليل الحسيني بجانبه التراويح، يستخبرُ منه عَنِ المتشابه في القرآن، حتى لا يخلو جلوسُه بين

الترويحتين من فائدة.

قلت: وأحوالُ السلف في عدم تضييع أوقاتهم أشهرُ مِنْ أن تُذكر. وقد أنشد أبو سعد ابن السمعاني عن أبي بكر محمد بن القاسم بن المظفر بن علي الشَّهرزُوري قوله:

هِمَّتي دُونَها السُّها والزُّبانا ... قد علت جهدها فما يتدانى

فأنا مُتعَبٌ مُعَنَّى إلى أن ... تتفانى الأيامُ أو أتفانى

ويُحكى عن الفقيه أبي الفتح سُليم بن أيوب الرازي أنه كان يحاسب نفسه على الأنفاس، لا يدع وقتًا يمضي بغير فائدة، إما بنسخ أو يدرس أو يقرأ، بل قيل عنه: إنه كان يحرِّكُ شفتيه إلى أن يَقُطَّ القلم. انتهى.

ولما كثُرتِ الإشاعة في دمشق بطروق اللَّنك إليها، وأرجف النَّاسُ بذلك، رجع إلى بلاده. وكان ظهوره منها -كما سلف- في أول يوم من سنة ثلاث وثمانمائة، وقد اتَّسعت معارفه كثيرًا، وأظهر لعلماء الشام