للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

علي بن حجر الشَّافعي، صاحبُ لهذه "التذكرة"، أطال اللَّه بقاءه، لرفع الدين بقمع المعتدين، في قصة مطوَّلة، تعصب فيها مع الرُّومي أبناءُ جنسِه وبعضُ الأتراك، بواسطة ميلهم إليه لأجل اللِّسان والمذهب، وغير ذلك على العادة، فشرع شخصٌ مِنَ الأتراك يذكر قاضي القضاة المشار إليه بما لا يليقُ بمقامه، فقال له آخرُ منهم: لا تفعل؛ فإنِّي رأيتُ له منامًا عجبًا، وحكى له المنامَ. فاجتمعت بذلك الرائي في يوم الثلاثاء سادس عشري الشهر مِنَ السَّنة، فحدثنا مِنْ لفظه، وهو طقتمر بن عبد اللَّه النَّاصري، قال:

لما توجَّه السُّلطان الملك الأشرف سنة ست وثلاثين وثماني مائة إلى آمد، فوصلنا إلى البيرة على شاطىء الفُرات، رأيت في المنام ليلة ست وعشرين مِنْ رمضان تلك السَّنة كأنِّي دخلتُ مسجدًا صغيرًا، وفيه شيءٌ كأَنَّه قبرٌ محجَّرٌ عليه بخَشَبٍ، وفي ذلك الخشب طاقٌ، وإلى جنب ذلك التَّحجيرِ نعش خشب أبيض بأربعِ قوائم، وعلى النَّعش شخصٌ ممدود، عليه ثيابٌ بيضٌ شديدةُ البياض جدًا، بحيث إنَّها لا تُشابِهُ ثيابَ أهل الدُّنيا، كأنها أكفانٌ، وليس مِنْ جسده شيء يُرَى، وإلى جانبه أشخاصٌ ألوانُهم خُضْرٌ. وكان قاضي القُضاة الشَّافعي ابن حجر في محراب ذلك المسجد يصلّي إمامًا ووراءه السُّلطان مِنْ جهة يمينه وقاضي القضاة البساطي المالكي مِنْ جهة يساره يصلِّيان مأمومَيْن، فأدركتُ معهم بعضَ الصَّلاة، ولم أعلم أيَّ صلاةٍ هي، فلمَّا سلمتُ قمت، فوضع بعض أولئك الأشخاص أيديهم على كتفي، وقالوا لي: أما تعرفُ هذا؟ وأشاروا إلى ذلك الذي على النعش، فقلت: لا، فقالوا: هذا رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- واستدار القاضي الشَّافعي، فدعا ثم قام القاضي المالكي، فجاء إلى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، فسلم عليه ومدَّ يدَه إلى صدر النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ففرَّج بعضَ الأكفان يسيرًا، وأخذ مِنْ هناك ياسمينًا قدر ما وسعه كفُّه، ثم تأخَّر، وشرع يقرِّبه إلى أنفه ويشُمُّه، ثم يمدُّ يده، ثم يردُّها إلى أنفه ويشم، وتناثر مِنْ يده خمسُ زهرات أو ستُّ، ثم قام الشَّافعيُّ، فجاء فسَلَّم على النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- وقبَّل صدرَه، وشرعا يتكالمان بكلام لم أسمع أحسنَ منه ولا ألذَّ، ولم أحفظ منه شيئًا، واستمر على ذلك زمانًا طويلًا، لعلَّه بمقدار ما يطبخُ الإنسانُ لحمًا ويُنْضِجُه، ثم أدخل يدَه الواحدة تحت كتف النبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-