للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الجاهلية، فأطعموني (١) هذا الطعام، فقال: ويحك، ألا أراكَ أطعمتني مما حرَّم اللَّه ورسوله؟ ثمَّ أدخلَ أصبعه في فيه، ثم تقايأ، فرمى بها، فقال له جُلساؤه: يا أبا بكر، ما بلغ اللَّه بهذه اللُّقمة؟ قال: سمعتُ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "أَيُّما لحمٍ نبتَ مِنْ حرامٍ، فالنَّارُ أولى به".

وإنما اقتصر شيخنا على ذكر السيد أبي بكر الصديق في ذلك لشهرته، وإلا فالسَّيِّدُ عمر أيضًا وقع له مثل ذلك. روى مالكٌ في "الموطأ" عن زيد بن أسلم أنه قال: شربَ عمرُ بنُ الخطَّاب رضي اللَّه عنه لبنًا فأعجبه، فسأل الذي سقاه: مِنْ أينَ هذا اللَّبنُ، فأخبره أنَّه ورد على ماءٍ قد سمَّاه، وإذا نَعَمٌ مِنْ نَعَم الصَّدقة وهم يسقُون، فحلبوا لي مِنْ ألبانها، فجعلتُه في سقائي، فهو هذا، فأدخل عمرُ يده في فيه، فاستقاءه.

بل اتفق لهما معًا -أعني أبا بكر وعمر- وهما في غزوة ذاتِ السَّلاسلِ أنَّ عوفًا مرَّ بقوم وهم على جزور، قد نحروها وهم لا يقدِرُون على أن يفصِلُوها، وكان امرؤٌ جازِرًا، فقال لهم: تعطُوني منها عشيرًا على أن أقسِمَها بينكم، فقالوا: نعم، فأخذ الشَّفرتين، وجزَّأها مكانه، وأخذَ جزءه، فحمله إلى أصحابه فأكلوا، وقال الشَّيخان له: أنَّى لك هذا اللَّحمُ يا عوفُ، فأخبرهما، فقالا: لا واللَّه ما أحسنتَ حينَ أطعمتنا هذا، ثم قاما يتقيآن ما في بطُونهما منه، فلما رجعُوا مِنْ ذلك السَّفَرِ، كان عوفٌ أوَّلَ قادمٍ، فسلَّم عليه، فقال له النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "عوف بن مالك"؟ فقلت: نعم بأبي أنت وأمي، فقال: "صاحبُ الجزور"؟ لم يزده على ذلك شيئًا. وحاصِلُه أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- أخبرَه بذلك قبل أن يخبره عوفٌ به، وكذا أورد البيهقي القصَّة في "الدلائل". انتهى.

ورأيته يومًا في بعض إراحاته مِنَ القضاء، وقد وُضِعَ على خُوانه صحنُ عِنَبٍ، فأخذ عنبةً منها، وهم بوضعها في فيه، ثمَّ بدا له، فاستدعى ببعضِ الفتيان، فسأله: مِنْ أينَ هذا العنبُ؟ فقال: مِنْ جهة كذا، فتغيظ وقال: أنا ما قلتُ لك لا تحضِرْ لي شيئًا مِنْ هذا؟


(١) في (أ): "فأعطوني"، والمثبت من خط المصنف في هامش (ب، ح).