للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الاجتماع به -ولو لم يكن بذاك- نحو ساعة أو أكثر، بحيث (١) يمل أتباعه وهو واقف، لا يُفارقه حتى يكون هو المفارق له.

ولقد كنت واللَّه العظيم أجيءُ إليه، وأنا حينئذٍ في المكتب، فأعارضه وهو يريدُ الدُّخول إلى منزله، فيقف معي (٢) ما شاء اللَّه حتى أسأله عَنْ ما أرومُ المسألة عنه مِنْ أحاديث وغيرها، بل ربَّما سألتُه إذ ذاك في كتابة أشياء، فيكتبها لي بخطِّه ممَّا هي عندي الآن.

وكان رحمه اللَّه لا يتكثَّر بعلومه، ولا يتبجَّح بها، ولا يفتخر، ولا يباهي بمعارفه، بل كان يستحيي مِنْ مدحه ويُطرِقُ، ولقد قال له بعضُ طلبته مرة: يا سيدي، إنَّ لك بفتح الباري المنَّةَ على البخاري، فقال له، قصمت ظهري، أو كما قال.

ومن تواضعه -كما أسلفته في أواخر الفصل السادس مِنْ الباب السادس (٣) - أنَّ بعضَ الفُضلاء التمس منه قراءة كتاب في أصول الفقه، وأظنُّه "شرح جمع الجوامع" له، وكرَّر الطَّلب لذلك، فصار شيخُنا يُبدي له أعذارًا، كان مِنْ جملتها: جهدي أتفرَّغُ لإلقاء العلم الذي يُقال إنَّني أعرفه. ونحوه كما تقدم أيضًا قوله في فن القراءات: بضاعتي في هذا الفن مزجاة. هذا مع كونه أستاذًا في كل فنٍّ بحُسْنِ ذكائه. وأما في الحديث فهُناك تخضعُ له الرِّقاب، لكنه أراد مزيدَ التواضع. وفي الواقع أن أوقاته كانت تضيق عَنْ ذلك.

ونحو ذلك أنَّه لمَّا أملى بالكاملية، ثم انتقل منها إلى البيبرسيّة -كما أسلفتُه- لقيه ناصر الدين محمد بن عمر الشَّيخي نزيل الكاملية وصهر ناظرها، فقال له: يا سيدي، أوحشت الكامليَّة، فأجابه بقوله: الكاملية مشتقَّةٌ مِنَ الكمال، يعني: ولستُ كاملًا.

ومن تواضعه أيضًا: أنَّه لم يكن يذكر أحدًا مِنْ طلبته ولو صَغُرَ إلا بصاحبنا فلان. وما كنت أظنُّه يقصِدُ مع التواضع بذلك إلا التَّنويه بذكرهم. ولعمري لقد انتفع جماعةٌ مِنْ طلبته وغيرها بتربيتهم والثناء عليهم، ومنهم


(١) "بحيث" ساقطة مِنْ (أ).
(٢) "معي" ساقطة مِنْ (ب).
(٣) ص ٩٥٥.