للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الحاجة إليه كما دبره الخالق عز وجل، وقد ذكر الليث بن سعد وغيره قصة رجل من ولد العيص بن إسحاق النبي، عليه السّلام، وتطلّبه مجراه أذكرها بعد إن شاء الله تعالى، قال أميّة: نيل مصر ينبوعه من وراء خط الاستواء من جبل هناك يقال له جبل القمر فإنه يبتدئ في التزيّد في شهر أبيب وهو في الرومية يوليه، والمصريون يقولون: إذا دخل أبيب شرع الماء في الدبيب، وعند ابتدائه في التزيّد تتغير جميع كيفياته ويفسد، والسبب في ذلك مروره بنقائع مياه أجنة يخالطها فيحيلها ويستخرجها معه ويستصحبها إلى غير ذلك مما يحيله، فلا يزال على هذه الحال كما وصفه الأمير تميم بن المعزّ بن إسماعيل فقال:

أما ترى الرعد بكى واشتك ... والبرق قد أومض واستضحكا؟

فاشرب على غيم كصبغ الدُّجى ... أضحك وجه الأرض لما بكى

وانظر لماء النيل في مدّه ... كأنه صندل أو مسّكا

أو كما قال أمية بن أبي الصلت المغربي:

ولله مجرى النيل منها إذا الصّبا ... أرتنا به في مرّها عسكرا مجرا

بشطّ يهزّ السّمهريّة ذبّلا، ... وموج يهزّ البيض هنديّة بترا

ولتميم بن المعز أيضا:

يوم لنا بالنيل مختصر، ... ولكل وقت مسرة قصر

والسّفن تصعد كالخيول بنا ... فيه وجيش الماء منحدر

فكأنما أمواجه عكن، ... وكأنما داراته سرر

وقال الحافظ أبو الحسين محمد بن الوزير في تدرج زيادة النيل إصبعا إصبعا وعظم منفعة ذلك التدرج:

أرى أبدا كثيرا من قليل، ... وبدرا في الحقيقة من هلال

فلا تعجب فكلّ خليج ماء ... بمصر مسبّب لخليج مال

زيادة إصبع في كل يوم ... زيادة أذرع في حسن حال

فإذا بلغ الماء خمسة عشر ذراعا وزاد من السادس عشر إصبعا واحدا كسر الخليج ولكسره يوم معهود فيجتمع الخاصّ والعامّ بحضرة القاضي وإذا كسر فتحت التّرع وهي فوهات الخلجان ففاض الماء وساح وعمّ الغيطان والبطاح وانضمّ أهل القرى إلى أعلى مساكنهم من الضياع والمنازل بحيث لا ينتهي إليهم الماء فتعود عند ذلك أرض مصر بأسرها بحرا عامّا غامر الماء بين جبليها المكتنفين لها وتثبت على هذه الحال حسبما تبلغ الحدّ المحدود في مشيئة الله، وأكثر ذلك يحول حول ثمانية عشر ذراعا ثم يأخذ عائدا في صبّه إلى مجرى النيل ومشربه فينقص عما كان مشرفا عاليا من الأراضي ويستقر في المنخفض منها فيترك كل قرارة كالدرهم ويعمّ الرّبى بالزهر المؤنق والروض المشرق، وفي هذا الوقت تكون أرض مصر أحسن شيء منظرا وأبهاها مخبرا، وقد جوّد أبو الحسن عليّ بن أبي بشر الكاتب فقال:

شربنا مع غروب الشمس شَمْساً ... مشعشعة إلى وقت الطلوع

وضوء الشمس فوق النيل باد ... كأطراف الأسنّة في الدروع

<<  <  ج: ص:  >  >>