للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[مسائل وفوائد متعلقة بالكلام عن صفة الرجل لله سبحانه ومستنبطة من الأحاديث السابقة]

وكلامنا عن هذه الصفة العظيمة التي أثبتها الله لنفسه وأثبتها له رسوله صلى الله عليه وسلم يتعلق به مسائل: المسألة الأولى: كم عدد أرجل الله جل وعلا؟

الجواب

أننا نقف حيث وقفت الآثار, فلم يرد أي دليل مرفوع يثبت العدد, لكن ورد بسند صحيح عن ابن عباس في مستدرك الحاكم أنه قال: الكرسي: موضع القدمين, والعرش لا يقدر قدره إلا الله جل وعلا.

فذكر ابن عباس هنا خبراً غيبياً، وعلماء الحديث يقولون: إن الصحابي إذا أخبر بخبر ليس هو محلاً للاجتهاد وهو أمر غيبي فحكمه حكم المرفوع.

وقد قيل: إن ابن عباس كان يأخذ من أهل الكتاب، وبعض العلماء نحا في الغيبيات: أن يكون حكمها حكم المرفوع، فنحن نقف حيث وقف الأثر، فقد ورد بسند صحيح صححه الحاكم على شرط مسلم عن ابن عباس أنه قال: والكرسي موضع القدمين.

والأحاديث السابقة التي قرئت علينا فيها فوائد مستنبطة كثيرة تفيدنا في التعبد لله جل وعلا بهذه الصفات الجليلة, ومن هذه الفوائد المستنبطة: أن الله جل وعلا ينشئ للجنة أقواماً أو خلقاً جديداً, وهذا فيه دلالة وإشارة إلى أن أهل الصلاح قلة وليسوا بكثرة, والذي يدلك على ذلك: أن أهل الجنة لا يملئون الجنة حتى يخلق الله جل وعلا خلقاً يملؤها بهم، وهذا موافق لقول الله تعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام:١١٦]، وأيضاً مصداق لحديث النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين: (أن الملك ينظر إلى عبد نجا وجاوز الصراط وهو يلج الجنة، فيقول الملك: نجوت نجوت! يندهش لذلك)، فهذا فيه دلالة كبيرة على أن أهل الصلاح قلة ولا يغرنك كثرة الهالكين, ولذلك ورد عن ابن مسعود بسند صحيح لما سئل عن الجماعة قال: من كان معه الحق وإن كان وحده, فهذه لفتة عظيمة ولطيفة لا بد لكل عبد أن يتدبرها وهي: ألا يغتر بالكثرة، فالقلة إذا كان معهم الحق فهؤلاء هم الذين لابد أن تلتزم برباطهم أو بصراطهم، وتسير معهم على الدرب الذي رسمه رسول الله صلى الله عليه وسلم, كما في الصحيح (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم).

وأيضاً من الفوائد المستنبطة: كلام الجنة والنار، وفي الحديث الصريح قال النبي صلى الله عليه وسلم: (تحاجت الجنة والنار، فقالت النار: مالي أوثرت بالمستكبرين؟ وقالت الجنة: ما لي أوثرت بالضعفاء والعجزة؟ فيقول الله جل وعلا للنار: أنت عذابي أعذب بك من أشاء, ويقول للجنة: أنت رحمتي أرحم بك من أشاء) , ففيه دلالة: أن الجماد يتكلم, وفيه رد قاطع على أهل البدعة والضلالة الذين يعطلون صفات الله جل وعلا, ويقولون: إن الله لا يتكلم، مع أن الله جل وعلا تكلم، واستمع جبريل صوت الله جل وعلا وكلامه، فالله جل وعلا ينادي بصوت مسموع ويتكلم بحرف كما بينا قبل ذلك.

وأما أهل البدع فقد أنكروا ذلك وقالوا: لو قلنا بأن الله يتكلم للزم من ذلك أن يكون آلة ولا بد من مخرج، ولا بد من فم ولسان! والذي جعل فكرهم يصل إلى ذلك أنهم شبهوا الخالق بالمخلوق، فما قدروا الله حق قدره، ولا قالوا: إن هذه صفة من صفات الكمال والجلال لله جل وعلا فعطلوها، فقد خافوا من التشبيه ففروا إلى التعطيل, ونحن نقول: هذه لوازم باطلة ولا تلزم من إثبات الصفة، ولو نظرنا في المخلوقات لوجدنا أن بعض الجمادات قد تكلمت وليس لها فم ولا لسان، والجنة تكلمت وقالت: أوثرت بالضعفاء والعجزة, والنار تكلمت وقالت: أوثرت بالمستكبرين، ولا مخرج للجنة ولا النار, وأيضاً نظير ذلك: أن السماء والأرض والجبال عندما أمرهن الله جل وعلا أن يأتين طوعاً أو كرهاً قلن: أتينا طائعين، وهذا تصريح بالكلام من السماء والأرض والجبال، والطعام تكلم أيضاً، فالصحابة رضوان الله عليهم لما طهرت قلوبهم وازداد الإيمان عندهم كانوا إذا أكلوا الطعام سمعوا تسبيح الطعام، فأين المخرج الذي يتكلم منه الطعام؟ فما ذكروه من اللوازم لا يلزم، وذلك الجذع الذي كان يرتقي عليه النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته، لما صنع له المنبر سمع الصحابة أنين الجذع؛ لفراق النبي صلى الله عليه وسلم.

وفي الصحيحين عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم وصف الحجر الذي ضربه موسى لما قال: ثوبي حجر! ثوبي حجر! قال: (وسمع له أنين)، فالحجر أيضاً له أنين مع أنه ليس له مخرج.

وأيضاً من الفوائد المستنبطة من هذه الأحاديث: إثبات صفة الإتيان لله تعالى، وهي صفة من صفات الفعل لله جل وعلا, وهي: صفة ثبوتية فعلية, وضابط الصفة الفعلية: أنها الصفة التي تتعلق بمشيئة الله تعالى، وهنا الله جل وعلا يأتي يوم القيامة يفصل بين العباد, فيأتي والملك صفاً صفاً, فالله جل وعلا يأتي إتياناً يليق بجلاله وكماله, وأما التفصيل لهذه الصفة فسيأتي إن شاء الله.

وقد بينا قبل ذلك الرد على المبتدعة الذين يقولون: إنما يأتي أمره، أو تأتي ملائكته, وذكرنا أن هذا خلاف ظاهر اللفظ، فإن الله جل وعلا يأتي إلى النار, ويأتي إلى الجنة, فيأتي إلى النار فيضع رجله فيها فينزوي بعضها إلى بعض، وتقول: قط قط.

أيضاً من الفوائد المستنبطة: نفي الظلم عن الله تعالى، فالظلم صفة سلبية أي: منفية عن الله جل وعلا, وقد نفاها عن نفسه سبحانه، ونفاها عنه رسوله صلى الله عليه وسلم, قال الله تعالى: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:٤٦]، وقال جل وعلا: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا} [يونس:٤٤]، وقال الله تعالى: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ} [هود:١٠١]، وقال جل وعلا: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} [النساء:٤٠]، فنفى الظلم عن نفسه مع قدرته عليه جل وعلا, فالله على كل شيء قدير سبحانه وتعالى، وفي الحديث الذي في مسلم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (قال الله تعالى: يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً) , فالله يقدر على الظلم لكنه لا يظلم، وهذا من كمال عدله جل في علاه.

والمقصود: أن الظلم صفة سلبية منفية عن الله، فقد نفاها الله عن نفسه في كتابه، ونفاها عنه رسوله صلى الله عليه وسلم كما في هذا الحديث, والنفي المحض لا كمال فيه, بل ننفي هذه الصفة ونثبت كمال ضدها، فقول الله تعالى: ((إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ)) نقول: لكمال عدله سبحانه، فهو الحكم العدل, فإن الله يحب المقسطين، والله ما أنزل الكتاب من السماء إلا بالحق؛ ليحكم بين الناس بالحق وبالعدل، فإن الله عدل يحب كل عدل ويحب المقسطين سبحانه وتعالى, ويبغض الظالمين ويبغض كل ظلم، ويكفيك لتعلم أن الله لا يحب الظلم ولا الظالمين لا أن الله جل وعلا أقسم من فوق سماواته العلى، فقال عن دعوة المظلوم: (وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين)، فهذه دلالة على بغض الله جل وعلا للظالم وللظالمين.

وفي مسند أحمد بسند صحيح عن عائشة رضي الله عنها وأرضاها قالت: لله ثلاثة دواوين: ديوان لا يغفره الله أبداً, وديوان لا يتركه الله أبداً, وديوان هو في المشيئة, فإذا كانت المشيئة فهو أقرب إلى الرحمة؛ لأن الله جل وعلا قال: إن رحمتي سبقت غضبي, فأما الديوان الذي لا يغفره الله أبداً: فهو الشرك, {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء:٤٨]، وأما الديوان الذي لا يتركه الله أبداً: فديوان المظالم، فالمظالم لا تفوت عند الله بحال من الأحوال, ففي عرصات القيامة عند دنو الشمس على قدر ميل أو شبر من الرءوس يجعل الله العبد الظالم يقف هذه الوقفة، فيرتجف قلبه، وترتعد فرائصه من المظالم التي وقعت منه على العباد، ويقتص منه يوم القيامة, فالله لا يفوت الظلم أبداً, قالت: والديوان الذي لا يتركه الله أبداً: ديوان المظالم؛ لأنه لا يظلم وقد حرم الظلم على نفسه, فلذلك لما تناطحت شاة مع أخرى قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ علي بن أبي طالب (إن الله جل وعلا سيقتص للشاة الجلحاء) فالله جل وعلا يبغض الظلم حتى مع البهائم وينتصر للمظلوم, فالله لا يظلم الناس شيئاً: (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً) فهذه أيضاً من الفوائد المستنبطة من بركة هذه الأحاديث.

وأيضاً من الفوائد المستنبطة من هذه الأحاديث: رؤية المؤمنين لربهم جل وعلا، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم (أن أهل الصليب يذهبون مع الصليب، والذين كانوا يعبدون القمر والشمس ويعبدون عزيراً يمثل لهم بعزير ويمثل لهم بعيسى وكلاً يكون إلى نار جهنم، ويبقى المؤمنون ومعهم المنافقون فيأتي الله جل وعلا على صورة غير الصورة التي يعرفونها, فيقول لهم: لمَ لم تذهبوا مع الناس؟ قالوا: كنا وحدنا في الدنيا ونحن في الآخرة كذلك، فيقول: ما تنتظرون؟ فيقولون: ننتظر ربنا, فقال: هل بينكم وبينه علامة؟ قالوا: نعم , فيقول أنا ربكم، فيقولون: نعوذ بالله منك، لست بربنا)؛ لأنهم لا يعرفونه، فهم يعرفون ربهم في عرصات يوم القيامة بعلامة بينهم وبينه جلا وعلا, فيأتيهم بصورة أخرى أيضاً فيقولون نفس القول، ثم يأتيهم بالصورة التي يعرفونها فيقول: أنا ربكم, فيقولون: أنت ربنا، فيكشف عن ساقه جل في علاه، فيسجد كل مؤمن كان يسجد لله إخلاصاً، وأما المنافق فيرجع ظهره طبقاً -نعوذ بالله من الخذلان- فلا يسجد، ويظهر نفاقه، فالله جل وعلا يخدعه كما خادع هو الله والمؤمنين في الدنيا.

إذاً: فالمؤمنون يرون ربهم في عرصات يوم القيامة، وفي الجنة، فأفضل ما يتمتعون به في الجنة هو رؤية وجه الله جل وعلا، جعلنا الله جميعاً ننظر إلى وجهه الكريم، ونقترب منه على منابر من نور, وكل -بحسب إيمانه- ينظر إلى ربه جل وعلا, ولما سألوا النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: (هل نرى ربنا؟ قال: أترون القمر ليلة البدر، وقال: أترون الشمس

<<  <  ج: ص:  >  >>