للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[مولده ونشأته]

ولد إمام الأئمة في شهر صفر من عام ٢٢٣ في نيسابور، ونشأ بها وطلب الحديث منذ حداثة سنه، فسمع من عالم خراسان ومحدثها الإمام إسحاق بن راهويه.

كان تقياً زاهداً عابداً، وثمرة العلم تظهر عند التطبيق، فالعلم وسيلة لا غاية، والغاية من العلم هي التطبيق، وكان كثير من طلبة العلم لا يأخذون عن أحد العلم حتى ينظروا في صلاته وفي ذكره وفي تعبده، وينظروا في تقواه وفي ورعه، فكان هذا الإمام ممن تعلم ليعمل، فكان تقياً زاهداً ورعاً قواماً صواماً، وكان كريماً سخياً شجاعاً رضي الله عنه وأرضاه، ورضي عن السلف أجمعين الذين حملوا لنا هذا العلم العظيم.

سلك الإمام ابن خزيمة طريقة طلاب العلم في عصره وهي تلقي العلم أولاً عن شيوخ بلده ثم الرحلة في الطلب، والرحلة هذه كأنها سنة أميتت، وهي لم تمت بحمد لله، لكن الله جل وعلا عوضنا بكسلنا وبقلة همتنا وضعف الوازع عندنا بأن العلماء وإن كانوا في مشارق الأرض ومغاربها يصل إلينا علمهم عن طريق الاسطوانات أو عن طريق شرائط الكاسيت.

سمع في صغره كما أسلفنا من علماء نيسابور مثل ابن راهويه ومحمد بن حميد، وكان يرغب في الذهاب إلى قتيبة فاستأذن أباه فأجابه: اقرأ القرآن أولاً، وأنا أهيب بكل طالب علم أنه لا بد أولاً أن يصبر نفسه في الحفظ، أنا جلست مع بعض مشايخي وسألته عن الجد في الطلب فقال: لا تسأل عن شيء حتى تحفظ القرآن، أصل العلم في القرآن، والشيخ محمد بن إسماعيل دائماً يقول: احفظ القرآن ثم بعد ذلك تكلم عن الطلب، وهذا تأصيل أصله الشيخ أسامة العظيم من مشايخ القاهرة، لو قلنا: إنه حلية زهاد هذا العصر فهو كذلك، فهو دكتور في الأزهر متخصص في أصول الفقه، وقد درس وأخذ بكالوريوس هندسة، ثم بكالوريوس شريعة، ثم ماجستير، ثم دكتوراه في أصول الفقه، رجل عابد يقيم الليل، نسأل الله جل وعلا أن يرفعه في عليين مع الصحابة الكرام مع النبي صلى الله عليه وسلم، إذا قام الليل بالإخوة في رمضان لا ينتهي إلا قرب الفجر، الذين يصلون خلفه يريدون السحور وهو ما يفكر إلا بالعبادة.

رأيته في الحج وقد اسودت الوجوه من شدة حر الشمس، فرأيته ورب السماوات والأرض وكأن وجهه يشع نوراً! فالرجل متعبد جداً وزاهد، وهو شافعي المذهب، فـ الشافعي كان يقول: تفقهوا قبل أن تسودوا، وكان هو يبين هذا ويقول: لا يتزوج أحد حتى يطلب العلم؛ حتى تكون امرأته تحته، فمن كان ذا علم سيستطيع أن يسير امرأته خلفه، فكان يقول: ما يتزوج أحد حتى يحفظ القرآن.

وكان السلف لهم منهج في طلب العلم، يقول العالم لمن أراد العلم: احفظ القرآن، فإذا حفظ القرآن وجاء إلى مجلس التحديث، قالوا: لا تجلس مجلس التحديث حتى تتعلم الفرائض، لأن هذا أول علم يندثر، فيتعلم علم المواريث ثم بعد ذلك يبدأ بطلب الحديث.

هنا الأب فعل ذلك مع الابن فقال له: لن تذهب إلى قتيبة لتسمع عنه وتروي عنه حتى تحفظ القرآن، والآن في عصرنا هذا لا تستطيع أن تقول لرجل كبر سنه: لا تطلب العلم حتى تحفظ القرآن؛ فتضيعه، الآن نحن نقول لمن كبر سنه وما استطاع أن يستدرك هذه المسألة: اطلب علم التوحيد، فعلم التوحيد هو أهم العلوم، وإن لم يستطع أن يجمع بين حفظ القرآن وعلم التوحيد فعلم التوحيد يقدم؛ لأنك لن تصل إلى ربك إلا بتوحيد خالص، ولن تخلد في الجنة وتنجو من نار جهنم إلا بتوحيد خالص.

يقول ابن خزيمة: فاستظهرت القرآن، يعني: حفظته عن ظهر قلب، فقال لي: امكث حتى تصلي بالختمة، ففعلت، فلما عيدنا أذن لي، فخرجت إلى مرو وسمعت بمرو من محمد بن هشام وغيره.

ثم واصل رحلاته في طلب العلم ورحل إلى بلدان كثيرة، رحل إلى بغداد، والري، والشام، والبصرة، والكوفة، والجزيرة، ومصر، وواسط، وفي هذه المدن سمع من علماء أعلام في السنة والفقه وغيرها من العلوم.