إذا علمنا أن الله جل وعلا يتكلم فإن كلام الله جل وعلا له وصف، إن الله يتكلم بصوت مسموع، حتى نرد على الذين يقولون: هو عبارة عن شيء في نفس الله، حاشا لله، كما سنبين من كلام الأشاعرة والكلابية وغيرهم، فنقول: الله جل وعلا يتكلم بصوت مسموع، بل ويتكلم بحرف؛ لأن الكلمات هي حروف يضم بعضها إلى بعض، فيتكلم الله بصوت مسموع، قال الله تعالى:{وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}[الشعراء:١٠]، والنداء لا يكون إلا بصوت مسموع، {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ}[مريم:٥٢]، فالنداء لا يكون إلا بصوت، {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ}[المائدة:١١٦] والقول لا يكون إلا بصوت مسموع، فالله يتكلم بصوت مسموع، صفة هذا الصوت ترتعد منه الخلائق، بل السماوات تصعق من صوت الله جل وعلا، وقد وصفه النبي صلى الله عليه وسلم كما في صحيح ابن خزيمة بقوله:(إن صوت الله كصلصلة).
وفي رواية قال:(كسلسلة على صفوان)، وصفوان هو الحجر الأملس، والسلسلة عندما تجر على الحجر الأملس تحدث صوتاً رهيباً شديداً، ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال:(أخذت السماوات منه رجفة أو قال: رعدة شديدة، فإذا سمع بذلك أهل السماوات صعقوا)، وفي الرواية الأخرى قال:(يخرون سجداً) أي: من سماع صوت الله جل وعلا، ويتكلم بحروف:((الم)) [آل عمران:١]، {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ}[القلم:١]، {حم * عسق}[الشورى:١ - ٢]، {كهيعص}[مريم:١]، كل هذه حروف تكون منها هذا الكلام المعجز الخالد إلى يوم القيامة.
فالله يتكلم بصوت مسموع، وبحروف؛ لأن الكلمات تتكون من حروف، إذا ثبت ذلك واعتقدنا هذا الاعتقاد الصحيح بأن الله يتكلم، وكلام الله جل وعلا يليق بجلاله وكماله وعظمته وبهائه وقدرته سبحانه وتعالى، فهل إذا اعتقدنا هذا الاعتقاد يستلزم الكلام أن يكون من مخرج؟ لا، لا يستلزم الكلام أن يكون من مخرج، إذ الجنة قد تكلمت، والنار قد تكلمت، والسماء تكلمت، والأرض تكلمت، بل الطعام تكلم من غير مخرج، فنقول: لا يستلزم أن يكون الكلام من مخرج، ويتكلم الله جل وعلا بكيفية، لكن الكيفية مجهولة بالنسبة لنا، معلومة عند الله، والكيفية لا يعلمها إلا الله، ونحن نفوض الكيفية.
إذاً: الله يتكلم بصوت وحرف، والكيف يعلمه الله، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وهذا كله في حصيلة الإمام مالك، وقبل ذلك روي عن أم سلمة مرفوعاً عن النبي صلى الله عليه وسلم لكن لم يثبت، والصحيح أنه من كلام أم سلمة وأخذه مالك وتكلم به، وكان ربيعة الرأي يقول بهذا، وأخذه عنه مالك واشترط على مالك أن يقول بذلك، فإذا اعتقدنا هذا فلا بد أن نقول: المقصود من علم صفات الله جل وعلا هو كيف نتعبد لله بهذه الصفة؟ أيضاً من البشر الذين كلمهم الله كفاحاً عبد الله بن أبي حرام، والد جابر بن عبد الله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح عندما قتل عبد الله رضي الله عنه وأرضاه قال:(لقد كلمه الله كفاحاً ليس بينه وبينه ترجمان، وسأله: ماذا تريد؟ قال: أن تردني إلى الدنيا فأحيا فأقتل في سبيلك) فكتب الله ألا يفعل ذلك، فكلمه الله خصيصاً له.
أيضاً يكلم الله كل واحد منا ليس بينه وبينه ترجمان، وهذا كلام رحمة، جاء في الحديث:(أنه يلقي على العبد ستره فيقول له: عبدي أتذكر ذنب كذا يوم كذا؟ فيقول: نعم أي رب، فيقول: عبدي أتذكر ذنب كذا وذنب كذا؟ قد سترته عليك في الدنيا وأنا أغفره لك اليوم)، اللهم اجعلنا من المغفور لهم يا رب العالمين! واستر علينا في الدنيا وفي الآخرة.
إذاً: إذا اعتقدنا أن الله يتكلم، وهذا من كماله وعظمته وقدرته، وأننا سنتمتع متعة ليس بعدها متعة بعدما نسمع صوت الله جل في علاه، فيجب علينا أن نتعبد لله بهذه الصفة التي اعتقدناها اعتقاداً جازماً صحيحاً، وذلك بأنك إذا سمعت الله لم تسمعه إلا بأذنك، فوجب عليك أن تهيئ هذه الأذن لسماع صوت ربك جل وعلا، الذي صغت له السماوات والأرض، وخضعت له السماوات والأرض، فإن صوت الله جل وعلا يتمتع به أهل الجنة، وأيضاً يرتعد منه أهل النار، فإذا أردت أن تتمتع بصوت الله فهيئ أذنك لسماع صوت الله جل وعلا، فتهيئة الأذن ألا تسمع إلا ذكر الله جل وعلا وما يرضيه، لا تسمع الفاحش والبذيء من الخلق، لا تسمع المجون والغناء وآلات اللهو والمعازف، لا تسمع السب، لا تسمع الشرك، لا تسمع أهل البدع والضلالة، لا تسمع كل ما يغضب الله جل وعلا، وكن ممن يسمع ما يرضي الله عز وجل، وممن يسمع أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، أي: يجلس في مجالس العلم فيسمع ما يرضي الله ويرضي رسوله صلى الله عليه وسلم، فكل منا يتعهد أذنه ألا يسمع بها إلا ما يرضي الله جل في علاه، لكن من منا لا يسيء؟ ومن منا لا يتعدى ويتجرأ على حدود الله؟ ومن منا لا يخطئ؟ ومن منا لا تغلبه شهوته؟ كل منا يقع في هذا، لكن بفضل من ربنا أن رحمة الله تسبق غضبه، وأن الله جل وعلا ستره مرخي على عباده، وباب التوبة مفتوح إلى يوم القيامة، فكل من تجرأ منا على حدود الله وسمع ما لا يرضي الله جل وعلا فباب التوبة مفتوح، فلا بد أن يستدرك، ولا بد أن يستغفر، ولا بد أن يتوب إلى الله توبة نصوحاً، ولا يسمع أذنه إلا ذكر الله أو كلام الله أو حديث النبي صلى الله عليه وسلم.