للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الرد على بدعة نفي صفة الوجه]

يرد على من نفى صفة الوجه بالإجمال ثم بالتفصيل، أما الرد عليهم إجمالاً فنقول: لقد خالفتم كتاب الله جل وعلا في قولكم: الله ليس له وجه، فقد قال عن نفسه: {إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى} [الليل:٢٠]، فقد خالفتم ظاهر القرآن وخالفتم أيضاً ظاهر السنة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أثبت لله وجهاً وقد تقدم الحديث قريباً، وخالفتم إجماع السلف، وقد خالفتم قول الله تعالى {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء:٣٦]، ولا علم لكم بهذا، هذا الرد إجمالاً.

أما الرد تفصيلاً فنقول: أولاً: زعمكم أن المقصود بالوجه هنا هو الذات كلام مردود بالكتاب وبالسنة، أما بالكتاب فقد قال الله تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ} [الرحمن:٢٧]، وجعل الوجه مضاف إلى الرب، ويقصد بالرب هنا الذات، فلا يمكن أن نقول: إن الله جل وعلا أنزل لنا الكتاب بلسان عربي مبين يكرر الذات مضافاً للذات، إذ إن هذا منكر في لغة العرب، وبذلك علم أن الوجه صفة مضافة إلى الذات، وأيضاً في قوله تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:٢٧] كلمة: (ذو) مرفوعة لأنها صفة لوجه، وبذلك يعلم أن الوجه يخالف الذات؛ لأن الرب هنا مضاف إليه مجرور، فلو نعت بذي لقال: ذي الجلال والإكرام، لكنه لما قال: ذو دل ذلك على أنها صفة للوجه لا للرب.

أما السنة فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أعوذ بالله العظيم، وبوجهه الكريم)، ومعلوم أن الأصل في العطف المغايرة، والنبي صلى الله عليه وسلم قد استعاذ بالذات فقال: أعوذ بالله العظيم، ثم استعاذ مرة ثانية بالصفة فقال: وبوجهه الكريم، ولو كان الوجه بمعنى الذات لكان التكرار لا معنى له، وكانت الجملة الثانية لغواً، والنبي صلى الله عليه وسلم قد أوتي جوامع الكلم فيتعين أن معنى: أعوذ بالله العظيم: الاستعاذة بالذات المقدسة، ثم غاير وقال: (وأعوذ بوجهه الكريم)، فاستعاذ بالصفة.

ويبقى عليه لازم باطل وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما يقول: (أعوذ بوجهه الكريم)، استعاذ بغير مخلوق، فيرد عليهم بأن هذه الصفة مخلوقة؛ لأن الاستعاذة بالمخلوق شرك، فقد استعاذ بصفة من صفات الله جل وعلا.

أما قولكم بأن الوجه في الآية بمعنى الثواب، وأن المعنى: يبقى ثواب ربك، أو: كل شيء هالك إلا الثواب فهذا مخالف لظاهر القرآن والسنة ويلزم من هذا القول لوازم باطلة هي كالتالي: اللازم الأول: أن يوصف الثواب بأنه ذو جلال وإكرام، وهذا لا يمكن بحال من الأحوال، فوصفه بذلك باطل معلوم البطلان؛ لأن الله جل وعلا قال: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:٢٧].

فوصف الوجه بذو الجلال والإكرام ولا يمكن أن يوصف الثواب بأنه ذو الجلال والإكرام.

اللازم الثاني: يلزم من قولكم أن الوجه معناه الثواب أن الثواب له بصر وله أنوار جلية تحرق البشر، ويفهم هذا من قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه) فلو أن الوجه بمعنى الثواب لكان معنى الحديث: لأحرقت سبحات ثوابه ما انتهى إليه بصره من خلقه! وهذا يدل على بطلان قولهم.

اللازم الثالث: يلزم من القول بأن الوجه هو الثواب أن النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ بمخلوق وحاشاه، فهو لا يستعيذ إلا بالخالق جل وعلا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وأعوذ بوجهه الكريم)، فلو وضع الثواب موضع الوجه، لكان معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: وأعوذ بثوابه العظيم، وبهذا القول نجعل النبي صلى الله عليه وسلم يبيح الاستعاذة بغير الله وهذا شرك، وبذلك يرد على المعتزلة النفاة الذين ينفون الصفة، وتصفوا لنا الأدلة بأن لله وجهاً، ووجه الله جل وعلا ذو جلال وإكرام وذو أنوار ولا يسأل بوجه الله إلا الجنة.

أما اعتراضهم بقول الله تعالى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ} [البقرة:١١٥]، فإن هذه الآية كما ذكر علماء التفسير نزلت خاصة في السفر، ومعلوم أن السياق من المخصصات؛ فإنهم إذا كانوا على الراحلة في السفر صلوا إلى غير القبلة، فحيثما توجهت الراحلة فثمة القبلة، والنبي صلى الله عليه وسلم إذا كان في سفر، وكان على راحلته لم يشترط استقبال القبلة، بل حيثما توجهت به الراحلة صلى، فنزلت الآية لترفع الحرج عن المؤمنين في السفر وتبيح لهم أن يصلوا حيثما توجهت بهم الراحلة أو ما يقوم مقامها اليوم من طائرة أو عربة أو غيرهما، قال الله تعالى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة:١١٥] وفي هذه الآية قولان للسلف: القول الأول: أن معنى ((وَجْهُ اللَّهِ)): قبلة الله، ويستدلون على ذلك بأن السياق الذي نزلت فيه الآية يفسر المقصود من الآية.

القول الثاني وهو القول الراجح من أقوال السلف: أن قول الله تعالى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} أي: هناك وجه الله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن العبد إذا قام يصلي فإن الله قبل وجهه)، ولذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يبصق المصلي أمامه أو عن يمينه؛ لأن الملك عن يمينك، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فإما في ثيابه أو عن يساره) فنهى أن يبصق المصلي أمام وجهه؛ لأن الله قبل وجهه، فقول الله تعالى: ((فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ)) معناه: أنك لو كنت في صحراء وحضرت الصلاة وأنت مأمور أن تقصد الكعبة، وما استطعت أن تعرف اتجاه الكعبة، ثم اجتهدت في الجهة فصليت وأخطأت هذا المقصد أو هذا الاتجاه، وقد اجتهدت قدر استطاعتك عملاً بقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:١٦]؛ فإن الله جل وعلا يقبل صلاتك وهو قبل وجهك، فيكون معنى قوله تعالى: ((فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ)): إثبات لصفة الوجه لله جل وعلا وزيادة إخبار بأن الله يكون قبل وجهك حتى لو اجتهدت ولم تستطع تحديد الجهة الصحيحة للكعبة.