[فضائل العرش]
والعرش له فضائل كثيرة في الدنيا وفي الآخرة، أما في الدنيا فهو يحب المؤمنين، وفي هذا رد على أهل البدعة والضلالة وأهل التأويل الذين يقولون: إن هذه جمادات لا تشعر وليس لها ذلك، ولا بد أن تؤول، فيؤولون قول النبي صلى الله عليه وسلم: (هذا أحد جبل يحبنا ونحبه) يقولون: المقصود به أهل الجبل، يقولون: وهو كقوله: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا} [يوسف:٨٢]، قالوا: اسأل أهل القرية، فإن الجدران لا تنطق.
والصحيح أن الجبل يحب، فقد كان يحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويحب صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأرض نفسها تبغض أهل المعاصي وتنقم على أهل المعاصي، وما من شيء إلا ويشكو من ابن آدم ومعاصي ابن آدم.
فالجمادات لها شعور ولها إحساس ولها عبادات، كيف لا وقد صرح الله بذلك، وكيف أرد على ربي قوله، وهو يقول: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء:٤٤].
ولقد ورد بسند بصحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه أنه قال: كنا نسمع تسبيح الطعام فكانوا يأكلون ويسمعون تسبيح الطعام.
ورسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتكئ على جذع أثناء خطبته، ثم بعدما بني له المنبر كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب عليه، فحن الجذع إلى رسول الله وسمعوا له أنيناً من شدة الحزن، وما سكت الجذع حتى نزل النبي صلى الله عليه وسلم عن المنبر ووضع يده الشريفة عليه.
وموسى عليه السلام عندما اغتسل وكانوا قد اتهموه بأنه آدر، وأراد الله جل وعلا أن يبين أنه ليس به مرض، فقام الحجر فأخذ ثوب موسى وفر به وموسى يجري خلفه يضربه.
وكان الشجر يسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة.
وفي الصحيح وفي سنن ابن ماجة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن العرش قد اهتز لجنازة سعد) وفي بعض الروايات: (اهتز العرش فرحاً بقدوم سعد).
فقال الذين يؤولون -ونقل ذلك البيهقي غفر الله لنا وله-: إن المقصود: اهتز حملة العرش فرحاً بقدوم روح سعد، والصحيح الراجح أن العرش هو الذي اهتز؛ لأن هذا هو قول النبي صلى الله عليه وسلم، وليس لنا أن نقدر تقادير أو نقول أن هذا مؤول إلا بقرينة، ولا قرينة هنا.
فمن فضائل العرش أنه يحب المؤمنين ويعتز بالمؤمنين، واهتز لـ سعد سيد الأنصار، وسعد هذا هو الذي قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (كأنك تومئ إلينا يا رسول الله! قال: اللهم نعم، فقال: يا رسول الله! أحبب من شئت وابغض من شئت، وصل حبل من شئت واترك من شئت، والله لو خضت البحر لخضناه معك).
وسعد بن معاذ هو الفقيه الأريب اللبيب صاحب المكانة عند الله جل في علاه، وهو الذي قال: اللهم! لا تمتني حتى تقر عيني ببني قريظة، وذلك لما نقضوا العهد مع المسلمين في غزوة الأحزاب، فلما أقسم هذا البار على الله أبر الله قسمه وما أماته حتى حكمه فيهم، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (قوموا إلى سيدكم فأنزلوه)، ولما أتي به في مرضه ووضع بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم به فقال له النبي: (إن القوم رضوا بحكمك عليهم، فنظر إلى اليهود فقال: أترضون بذلك؟ قالوا: نعم، أخ كريم، فأشار إلى ناحية رسول الله وطرفه لم ينظر إلى وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم -وهذا من الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم- وقال: أترضون بذلك؟ قال رسول الله: نعم، فقال: الرجال يقتلون، والنساء والذراري تسبى فقال النبي صلى الله عليه وسلم: قد حكمت عليهم بحكم الله من فوق سبع سماوات).
هذه مكانة سعد الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (لمناديل سعد في الجنة خير من كذا وكذا).
سعد بن معاذ رضي الله عنه وأرضاه اهتز عرش الرحمن لقدومه؛ فأي فضيلة وأي مكانة لـ سعد بن معاذ عند الله جل في علاه، لما يستشعر هذا العرش العظيم بفضل سعد فيهتز لقدوم روحه رضي الله عنه وأرضاه.
ومن فضل العرش في الدنيا أيضاً: أن الله جل وعلا وضعه كما وضع الكعبة تطوف حوله الملائكة، ثم أوحى الله لملائكته الذين يحملون العرش والذين يطوفون حوله أن يستغفروا لمن في الأرض، فالملائكة الذين يحفون بالعرش ويطوفون حوله: {يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأَرْضِ} [الشورى:٥].
وفضل العرش يوم القيامة فضل عظيم، لكن هذا لا يناله إلا الخاصة والشرفاء عند الله جل في علاه، فالله جل في علاه إذا حشر الخلائق حشرهم على أرض غير الأرض وسماء غير السماء: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ} [إبراهيم:٤٨].
فهذه الأرض لا معلم لأحد فيها ولا مستظل لأحد فيها، فالشمس تدنو من الرءوس قدر ميل ولا مستظل لأحد منها إلا عرش الرحمن.
فعرش الرحمن أفضل ظل يستظل به المؤمن الشريف الذي له المكانة الراقية عند الله جل في علاه، والله ما جعل هذا العرش ظلاً لأحد إلا للخاصة.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله)، ثم سرد السبعة.
نسأل الله جل وعلا أن يجعلنا جميعاً من هؤلاء السبعة فنستظل بظل عرش الرحمن، وهاء الضمير في قوله ((إلا ظله)) تعود على عرش الرحمن، ولا تعود على الله؛ لأن الظل ليس صفة من صفاته تعالى، نسأل الله جل وعلا أن يغفر لنا ذنوبنا كلها دقها وجلها، ويجعلنا من المستغفرين، ويجعلنا من المتذللين الخاضعين له، المتقنين في أمر التوحيد الذي هو فرض عين علينا، المتعبدين له به.