للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[رحمته صلى الله عليه وسلم بالمؤمنين]

إن رحمة النبي صلى الله عليه وسلم بأهل الإيمان بلغت مبلغها، وأروع ما يضرب في ذلك: شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لهم، فإنه ترك دعوة مستجابة واختبأها لأمته، ولذلك فهو يقول يوم القيامة: (أمتي أمتي)، يبكي فيأتيه جبريل مبشراً ويقول: (إن الله يقول: يا محمد! إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك).

ومن شفقة النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الأمة: أنه كان إذا وجد الأمر الشديد ينزل بهذه الأمة يقول: (أبشروا أنتم ثلث أهل الجنة)، ثم قال: (أبشروا أنتم ثلثي أهل الجنة)، حتى كبر عمر رضي الله عنه وأرضاه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم مبشراً زيادة بأن الله سيحثو حثوات بيده سبحانه وتعالى فيدخلهم الجنة، فكبر عمر رضي الله عنه وأرضاه، وكبر الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين.

ومن رحمة النبي بأمته: تذلله وتضرعه وخضوعه لله إذ يقول: (أمتي أمتي)، بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم.

وقد ظهرت رحمته بالجاهل قبل المتعلم: فهذا الرجل الذي قام يبول في ناحية المسجد، والمسجد يذكر فيه الله جل في علاه، ويذكر فيه حديث النبي صلى الله عليه وسلم، ويصلى فيه لله، ولكن هذا الأعرابي بال أمام الناس في المسجد، كاشفاً عن عورته، فقام الصحابة وأرادوا أن يفتكوا به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تزرموه)، وهذا هو وجه الشاهد في رحمة النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا الرجل يبول وتنتشر نجاسته في المسجد، ومع ذلك النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تزرموه)، أي: لا تقطعوا عليه بوله، ثم علمه النبي صلى الله عليه وسلم أن هذه المساجد ما بنيت إلا لذكر الله، فقال الرجل بعدما رأى النبي صلى الله عليه وسلم لم ينهره: (اللهم ارحمني ومحمداً، ولا ترحم معنا أحداً، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: لقد حجرت واسعاً).

ومن رحمة النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الأمة: (أن الأعرابي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأخذ بمجامع ثوبه حتى أثر في صفحة عنق النبي صلى الله عليه وسلم وقال: أعطني، ليس من مالك ولا من مال أبيك)، يقول ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم بكل شدة وجفاء، والنبي صلى الله عليه وسلم يبتسم له، ويأمر له بعطاء، فيقول للناس: أنا كالذي يربي الإبل ويعرف كيف يسيرها في معنى قوله صلى الله عليه وسلم.

وقد جاءه رجل يريد عطية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أعطيتك ورضيت فقل: رضيت)، لأنه تكلم مع النبي صلى الله عليه وسلم بشدة وبغلظة، وكاد الصحابة أن يفتكوا به، فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (أرضيت؟ قال: رضيت، قال: إن أصحابي ينظرون إليك نظرة أخرى)، أو كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، وقال له: (سأقوم في الناس، وأقول لك أرضيت؟ فقل: رضيت)، يعني: حتى لا ينتهره الصحابة رضوان الله عليهم فقال: رضيت، فقام النبي صلى الله عليه وسلم فقال للرجل: (أرضيت؟ قال: ما رضيت -أمام الصحابة- ومع ذلك رحمه النبي صلى الله عليه وسلم، فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم وأعطاه مرة ثانية وثالثة وبعد أن أعطاه قال: أرضيت؟ قال: رضيت، قال: إذا قلت لك أمام أصحابي: رضيت تقول رضيت؟ قال: نعم، فقام أصحابه فقال: أعطيت الرجل فرضي، أرضيت؟ فقال: رضيت، فسكت الصحابة عنه).

ومن أروع ما يدل على رحمته: قوله الذي يستحق أن يكتب بماء الذهب: (اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي، وكلما سجد قال: يا رب! أمتي أمتي)، حتى إن الله جل وعلا بعث له من يبشره ويسليه ويقول له: (إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك)، هذه آخر فائدة من هذا الحديث العظيم، وهو حديث الشفاعة، أسأل الله جل في علاه أن يديم علينا هذا الخير.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

<<  <  ج: ص:  >  >>