للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[اختلاف العلماء في رؤية الكافرين لربهم يوم القيامة]

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:١٠٢].

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:١].

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:٧٠ - ٧١].

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

ثم أما بعد: فإن من أشرف مسائل العقيدة على الإطلاق هي مسألة رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة، كيف لا وهي تتعلق بالنظر إلى وجه الله الكريم، والمتعة والنعيم التامان في الجنة يكونان بالنظر إلى وجه سبحانه.

وقد سبق ذكر الرؤية وأدلتها والمخالفين لأهل السنة والجماعة فيها، وكيفية الرد عليهم، والمسألة الأخرى هي رؤية الكافرين لله جل في علاه يوم القيامة، فهل يحرمون في عرصات يوم القيامة من رؤيته أم يرونه عند الحساب؟

و

الجواب

أن الناس ينقسمون إلى أقسم ثلاثة: القسم الأول: المؤمنون الخلص الذين آمنوا بالله ووحدوه حق التوحيد، وآمنوا به رباً ولم يجحدوا شرعه سبحانه جل في علاه، فأتمروا بأمره وبأمر نبيه صلى الله عليه وسلم.

والقسم الثاني: الكافرون الخلص الذين جحدوا ربهم، وجحدوا شرعه، وخالفوا أمره وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، فأظهروا الكفر، وكانوا مرصاداً وحرباً لدين الله جل في علاه، وحرباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

القسم الثالث: مذبذبون بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا هؤلاء، فلا هم مؤمنون خلص ظاهراً وباطناً، ولا كافرون خلص ظاهراً وباطناً، فأبطنوا الكفر والجحود والاستكبار والاستعلاء على دين الله جل وعلا وأظهروا الإسلام، فكان لهم ما للمسلمين، وعليهم ما على المسلمين.

فهؤلاء هم المنافقون، فهم وسط بين هؤلاء {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ} [النساء:١٤٣].

فأما المؤمنون الخلص فهم الذين يرون ربهم يوم القيامة.

والرؤية رؤيتان: رؤية لذة ونعيم وإكرام وسعادة وسرور، وهذه لا تكون إلا في الجنة، ولا يفوز به إلا المؤمنون الخلص بالإجماع، فالمؤمنون الخلص يرون ربهم رؤية لذة ونعيم وإكرام، وهذه الرؤية تكون في الجنة عندما يطلع الله على أهل الجنة ويقول: (تمنوا، فيقولون: يا ربنا! ألم تنجنا من النار؟ ألم تبيض وجوهنا؟ ألم تدخلنا الجنة؟ فيطلع الله عليهم وينزع رداء الكبرياء، فيرون ربهم فما أوتوا من نعيم مثل هذا النعيم)، رزقنا الله رؤيته {فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر:٥٤ - ٥٥].

والرؤية الثانية: رؤية فتنة ومحنة واختبار، وفيها توبيخ وزجر، وهذه الرؤية هل هي رؤية عامة أم هي رؤية خاصة بالمؤمنين؟ اختلف العلماء من أهل السنة والجماعة في ذلك على أقوال ثلاثة: القول الأول: أن الكافرين والمؤمنين والمنافقين يرون ربهم على عرصات يوم القيامة قبل أن يضرب الجسر، وقبل أن يذهبوا إلى الجنات أو النيران، فعند الحساب يرى الكافرون والمؤمنون والمنافقون ربهم جل في علاه.

وهذا هو القول الأول من أقوال أهل السنة والجماعة.

واحتجوا بأدلة كثيرة منها: أولاً: قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ} [الانشقاق:٦]، واللقاء يستلزم الرؤية.

واحتجوا أيضاً بحديث أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم قال: (ما من أحد إلا وسيكلمه الله ليس بينه وبينه ترجمان)، وبما جاء في الصحيحين: (أن الله جل وعلا يأتي بالرجل من أهل النار ويقول له: لو كان لك ما في الأرض وما في السماوات من ذهب أو من فضة لافتديت به من عذاب يوم القيامة؟ قال: نعم، فقال الله: قد طلبت منك ما هو أهون من ذلك وأنت في صلب آدم، طلبت منك أن توحدني ولا تشرك بي شيئاً)، أو كما قال النبي صلى الله عليه وسلم.

فكل ذلك لقاء بين الرب وبين العبد، واللقاء يستلزم الرؤية والمعاينة.

واستدلوا أيضاً بما استدل به المصنف -وإن كانت أسانيده ضعيفة- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فينظر الله إليهم -يعني في عرصات يوم القيامة- وينظرون إليه)، وهذا عام في جميع أهل الموقف أنهم ينظرون إلى الله، وينظر الله جل وعلا لهم، وأهل الموقف فيهم المؤمنون الخلص، والكافرون الخلص، والمنافقون الذين هم وسط بين المنافقين وبين المؤمنين، وهذا يدل على أن الكافرين سيرون ربهم، لكن هذه الرؤية ليست رؤية إكرام ولا سعادة ولا سرور، بل هي رؤية امتحان واختبار وحسرة وألم، حتى إذا أدخلهم الله النار حرموا من رؤيته.

القول الثاني من أقوال أهل السنة والجماعة: أنه لا يرى الله جل وعلا أحد لا في عرصات يوم القيامة ولا في الجنات إلا المؤمنون الخلص فقط؛ لأن رؤية الله شرف عظيم لا يرتقي إليه منافق ولا كافر، فالمؤمن فقط هو الذي سيرى ربه جل في علاه.

واحتجوا على ذلك بالنص القاطع من كتاب الله جل وعلا وهو قوله تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:١٥]، وهذا نص قاطع عام في كل كافر بالاتفاق، وفي كل منافق أبطن الكفر وأظهر الإسلام كـ عبد الله بن أبي بن سلول وطائفته ممن أبطنوا الكفر وأظهروا الإسلام، فهؤلاء من الكافرين، والله جل وعلا يقول: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:١٥]، يقول ذلك لمن يكذبون بيوم الدين وهم الكافرون، فهذا نص قاطع على أنه لا يرى الله إلا المؤمنون، فكما حجبت رؤية الله عن هؤلاء في الغضب فإن المؤمنين يرونه في الرضى، وفي عرصات يوم القيامة أيضاً.

القول الثالث: القول بالتفصيل، وهذا قول لبعض أهل السنة والجماعة، وعند تدقيق النظر فأن هؤلاء هم أسعد الناس بالدليل.

قالوا: إن المؤمنين والمنافقين سيرون الله عز وجل في عرصات يوم القيامة، فأما الكافرون فلا يرون ربهم جل في علاه، واستدلوا على ذلك بحديث: أبي هريرة وحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنهما في الصحيحين، أن النبي صلى الله عليه وسلم -بعدما وصف لهم عرصات يوم القيامة وما يرون فيها من أهوال- قال: (فيقول الله جل وعلا لأهل الموقف: من كان يعبد شيئاً فليتبعه، فيأتي الذين كانوا يعبدون الشمس فيتبعون الشمس، وتكور حتى تسقط في نار جهنم فيسقطون في نار جهنم، ويأتي الذين كانوا يعبدون القمر فيكور، ثم يلقى في نار جهنم فيسقطون في نار جهنم، ثم قال: فيبقى المؤمنون وفيهم المنافقون وبقايا من أهل الكتاب، فيقول الله جل وعلا: من تنتظرون؟ فيقولون: ننتظر ربنا، فيقول لأهل الكتاب: من تعبدون؟ فيقولون: كنا نعبد عيسى ابن الله، فيقول الله جل وعلا: كذبتم {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ} [المؤمنون:٩١]، ثم يتمثل لهم شيطان عيسى، ويذهب فيهوي إلى نار جهنم، فيسقطون خلفه في النار).

إذاً: فأهل الكتاب يمحصون ويتساقطون إلى نار جهنم قبل أن يروا ربهم، وأيضاً اليهود يقولون: كنا نعبد عزيراً ابن الله -ينسبونه إلى الله جل في علاه-، فيقول الله جل في علاه: كذبتم {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ} [المؤمنون:٩١]، فيتمثل لهم شيطان عزير عليه الصلاة والسلام فيهوي في النار، ويتساقطون هم معه، ويبقى من يكشف الحجاب لهم، وهم المؤمنون وفيهم المنافقون، فيأتيهم الله جل وعلا على صورة غير الصورة التي يعرفونها -، وهذا فيه دلالة على أن الله له صورة، وكونه يأتى بصورة غير صورته جل في علاه فهو فعال لما يريد سبحانه {إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:٨٢]، {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:٢٣]-فيقول: أنا ربكم، فيقولون: نعوذ بالله منك لست بربنا، ثم يأتيهم في الصورة التي يعرفونها فيقول: أنا ربكم -فبينه وبينهم علامة- فيقولون: نعم، فيكشف عن ساقه جل في علاه، فيخر ساجداً كل مؤمن ومنافق، فمن كان يسجد لله إخلاصاً وتوحيداً كاملاً يسجد كما كان يسجد في الدنيا، أما الذي كان يسجد نفاقاً فإذا جاء ليسجد تحولت فقرات ظهره طبقاً واحداً، فينقلب على ظهره ولا يسجد لله جل وعلا، وهذا محل الخداع والمكر بأهل النفاق.

ففي هذا الدليل بيان أن بقايا أهل الكتاب يتساقطون خلف شيطان عيسى وشيطان العزير، وأما المؤمنون والمنافقون فيظهر الله لهم، كما جاء في رواية قال: (ثم يتوارى عنهم، ثم يظهر لهم بالصورة التي يعرفونها).

فهذا هو دليل الطائفة الثالثة الذين يقولون: إن أهل الكتاب أو الكفار لن يروا الله جل وعلا حتى في عرصات يوم القيامة.

والصحيح الراجح هو هذا القول، وأصحابه هم أسعد الناس بالدليل وقولهم بأن الكافرين لا يرون ربهم لا في عرصات يوم القيامة ولا في غير عرصات يوم القيامة، يدل على أنهم لا يرونه في الجنة من باب أولى، فهم أهل الخسارة، وأهل الغي والعار الذين حرموا جنة الدنيا، ثم حر

<<  <  ج: ص:  >  >>