للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الفوائد المستنبطة من الأحاديث التي تدل على فضل الذكر]

الفوائد المستنبطة من هذه الأحاديث الخمسة التي ذكرناها في فضل الذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم لما جاءه الرجل بعدما كبر سنه يستنصحه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اجعل لسانك رطباً بذكر الله)، ولو لم يكن لفضل الذكر إلا أن الله سيذكرك لكفى بها نعمة وفضلاً، فيلزم من أن الله جل وعلا يذكرك أن يحبك، وإذا أحبك نادى في السماء: يا جبريل! إني أحب فلاناً فأحبه، فينادي جبريل بعدما يحبه: يا أهل السماء! إني أحب فلاناً فأحبوه، ثم يكتب له القبول في الأرض، ويستلزم من ذكر الله جل وعلا لك أن يرحمك، وأن يثني عليك في الملأ الأعلى.

ومن الفوائد المستنبطة من هذا الحديث العظيم في فضل الذكر: المعية.

يقول الله تعالى: (فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم)، وقال: (أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت بي شفتاه) ومعية الله جل وعلا معيتان: معية عامة للمؤمن والكافر، ومعية خاصة.

أما المعية العامة فهي معية العلم والإحاطة، قال الله تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ} [المجادلة:٧]، السياق والسباق بالمقدمة والنتيجة يثبت أنه معهم بعلمه وقد أحاط بكل شيء علماً.

ومعية خاصة: هي معية التسديد، ومعية التوفيق، والعبد الموفق هو العبد الذاكر لله جل وعلا، فلا تجعل وقتاً يمر عليك إلا وأنت تذكر الله جل وعلا، وفي كتاب شعب الإيمان أثر ضعيف جداً أنه قال: (اذكر الله حتى يقولوا: مجنون)، والمعنى أنك لا تنشغل إلا بذكر الله جل وعلا، فالعبد الذاكر هو عبد مسدد، وعبد موفق من الله جل وعلا، عبد يستجلب معية الله، ومن كان مع الله كان الله معه، فالله جل وعلا يكون معك إذا ذكرته، وإذا ذكرته جل وعلا فإن الله جل وعلا يسددك ويوفقك، لا تسمع إلا به، ولا تبصر إلا به، ولا تبطش إلا به، فهو معك بالتسديد والتوفيق، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مبيناً لنا هذه المعية مع الله عز وجل: (يا أبا بكر! لا تحزن فإن الله معنا) فالله جل وعلا جاءه بالنص، وأيضاً موسى عليه السلام {قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ * فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ} [الشعراء:٦٢ - ٦٣].

إذاً: معية الله هنا: معية التسديد والتوفيق والنصرة والثبات، وموسى عليه السلام وهارون خافا عندما ذهبا إلى فرعون من بطشه وجبروته، فقال الله تعالى: {قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:٤٦]، ويستلزم ذلك أن أسددكما وأكون معكما بالتوفيق والنصرة والثبات.

آخر الفوائد المستنبطة من هذا الحديث: أن الملائكة خير من بني آدم، عند من يقول بذلك، وفصلنا القول فيها، واختلف العلماء فيها على قولين: القول الأول: الملائكة خير من البشر، وعمدة أدلتهم هذا الحديث؛ لأن الله جل وعلا قال (ذكرته في ملأ خير منهم) وهذا الملأ صرح به في رواية أخرى قال: (في ملأ من الملائكة) فهذا بالتنصيص أن ملأ الملائكة خير من ملأ البشر.

وقوله: (ذكرني في ملأ) ليس فيه حجة لأهل البدع الذين يتحلقون ويذكرون الذكر الجماعي، فالمقصود بـ (ذكرني في ملأ) مجالس العلم، وتعليم القرآن وتعليم السنة أو الفقه، والحديث يفسر الحديث عندما تأتي الملائكة السياحة وتنظر إلى مجالس العلم وتجلس وتحفهم حتى تصعد إلى الله جل وعلا إلى آخر الحديث فالله جل وعلا يقول (هم القوم لا يشقى بهم جليسهم) فهنا معنى (ذكرني في ملأ) أي: مجالس العلم، فيكون في مجالس العلم الثناء في الملأ الأعلى، أنت الآن منتشر اسمك بين الملائكة، وكل ملك يعرف اسمك ويعرف اجتهادك ومجلسك في حلقات الذكر وحلقات العلم.

إذاً: يستدلون بقوله: (في ملأ من الملائكة)، يعني: خير من هذا الملأ وهو نص صريح.

القول الثاني: جمهور من أهل العلم قالوا: صالحوا البشر خير من الملائكة، ويستدلون بأدلة كثيرة، وعمدة هذه الأدلة تفضيل الله لآدم على الملائكة حيث أمرهم بالسجود له، وأيضاً فضله عليهم بالعلم، فتمسكوا بالعلم قدر الإمكان؛ لأن آدم ارتفع على الملائكة قاطبة بالعلم، قال تعالى: {قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ} [البقرة:٣٣]، فعلم آدم ورفعه على الملائكة.

والراجح في هذه المسألة ما رجحه شيخ الإسلام ابن تيمية بالتوفيق بين هذين القولين: قال: إذا نظرنا للأولية قلنا بقول الأولين، وإذا نظرنا للآخرية قلنا بقول الآخرين، والمعنى: إذا نظرنا للأولية يعني: في الدنيا، قلنا بقول الأولين: يعني الملائكة أفضل؛ لأنهم يسبحون ويحمدون ويركعون ويسجدون ويفعلون ما يؤمرون ولا يعصون الله جل وعلا، وهذا في الدنيا، أما الإنسان فيخطئ ويعصي ويذنب، وهو ينيب ويستغفر، لكن يفعل المعاصي وليس كالملائكة في هذه الطهارة.

أما إذا نظرت إلى الأخروية فنقول: قد استوى البشر مع الملائكة فأهل الجنة يلهمون التسبيح، فإذا دخلوا الجنان ارتقوا إلى مرتقى عال جداً فتفوقوا على الملائكة، وهذا من أبدع ما يجمع به، ففي الدنيا تكون الملائكة أفضل من البشر؛ لأن الإنسان يخطئ ويذنب في الدنيا، وفي الآخرة يكون البشر الذي يدخلون الجنة أفضل من الملائكة؛ لأن البشر في الجنة يلهمون التسبيح، فيستوي الملك مع البشر في ذلك.

أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.

وصل اللهم وسلم وبارك على محمد وصحبه أجمعين.