للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[الرد على أدلة أهل الاتحاد والحلول]

والرد على أهل البدع القائلين بالحلول والاتحاد ما يلي: أولاً: قول الله تعالى: ((وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ))، فسنقعد قواعد لطلبة العلم لابد أن يسيروا عليها إذا حفظوها وتعلموها.

القاعدة الأولى: أن الله جل وعلا أنزل القرآن وفيه المحكم والمتشابه، وقد قال علماؤنا: إذا رد المرء المتشابه إلى المحكم فسر المتشابه بالمحكم، يعني: ظهر لك مراد الله جل وعلا وعلمت ما يريده الله من الآيات.

القاعدة الثانية: أن الله جل وعلا لم ينزل القرآن ليضل به عباده ولا ليحيرهم، بل أنزل القرآن لهداية العباد ولهداية الحائرين، لا أن يحير المهتدين، قال الله تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء:٨٢]، فإذا كان الكلام من عند الله فلن يوجد فيه ثمة اختلاف، فلا تناقض في آيات الله جل وعلا، فالله جل وعلا أنزل الآيات المحكمات التي فيها تبيان لكل شيء، قال الله تعالى: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل:٨٩]، فأي شيءٍ غامض فالقرآن يبينه، فالمتشابه إذا رددته إلى المحكم بان وظهر لك ما يريد الله جل في علاه.

فمن المحكمات: قول الله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:٥]، فهذه الآية لا تحتمل غير الاستواء فقط.

وكذلك قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الحديد:٤].

ثم ننظر في المتشابه حتى نرده إلى المحكم، فننظر في هذه الآيات التي استدلوا بها وهي قوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد:٤]، وقوله أيضاً: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة:٧].

فقوله تعالى: ((وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ))، من المتشابه؛ لأنها تحتمل أكثر من وجه، فالمعية هنا يحتمل أن تكون معية الاختلاط، يعني: داخلكم، أو معكم مع هذا وهذا وذاك، في البحار وفي الجبال وفي السماء وفي الأرض، ويحتمل أن يكون معناها: معكم بعلمه وإحاطته وقدرته وسمعه.

وإذا أردنا أن نبين معنى هذه الآية لنصل إلى التفسير الصحيح فلابد أن نرد الاحتمالين إلى المحكم، والمحكم هو أن الله فوق العرش، والعرش فوق السماء.

فالاحتمال الأول: أنه معنا معية اختلاط في الأرض وفي السماء وفي البحار وفي الجبال، وهذا الاحتمال بعيد، وهو احتمال باطل؛ لأنه صادم المحكم.

أما الاحتمال الثاني: فإنه على العرش وهو معكم بعلمه وقدرته وسمعه وإحاطته.

فإذاً: توافقت هذه الآية مع الآية السابقة، عندما رددنا المتشابه للمحكم، فظهر لنا أن الرحمن على العرش استوى، وأن قوله: ((وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ)) يعني: بعلمه وسمعه وقدرته.

إذاً: هذا أول دليل في الرد عليهم، فنقول: معية الله جل وعلا في قوله: ((وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ)) معية مطلق المصاحبة.

ومعية المخالطة مثل قول القائل: ائتني بكوب شاي مع الحليب، فإن الحليب داخل الشاي.

أما قول القائل: سرت والقمر، أو سرت والنيل، فإن الواو هنا: واو المعية، أي معية مطلق المصاحبة.

إذاً: إذا كانت المعية معية مخالطة ومعية مصاحبة، فالذي يفصل لنا في النزاع هو الآيات المحكمة.

أما قوله تعالى: ((مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ)) يعني: بعلمه وقدرته وإحاطته سبحانه وتعالى، والدليل على ذلك في نفس الآيات التي استدلوا بها، فإن سياق الآية يدل على هذا المعنى، إذ أن السياق يعتبر من المقيدات والمفسرات، ففي الآية الأولى وهي: قوله تعالى: ((هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا)) يدل سياق الآية على العلم، فكل ما خفي ودق فالله يعلمه ((وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ)) أي: معكم بعلمه.

أما الآية الثانية: وهي قول الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} إلى قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} فبدأ الله في صدر الآية بالعلم وختمها بالعلم، فهذا السياق يبين لنا معنى قوله تعالى: ((مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ)) أي: بعلمه فقد أحاط بكل شيء علماً.

فإذا رددنا المتشابه للمحكم ظهر لنا المراد من هذه الآيات، وهذا رد على الجهمية المعطلة الذين عطلوا صفات الله جل وعلا وقالوا: هو في كل مكان، وأن ما تراه بعينك فهو الله.

<<  <  ج: ص:  >  >>