[الرد على أدلة المعتزلة والخوارج]
الخوارج سموا صاحب الكبيرة كافراً، وأما المعتزلة فأجبن من الخوارج إذ خافوا من اتهام أهل الإيمان بالكفر، فيجهز عليهم بسبب تكفيرهم لهم، فقالوا: صاحب الكبيرة ليس بكافر ولا مؤمن، بل هو في منزلة بين المنزلتين.
وإن قيل لهم: أين هو في الآخرة؟ قالوا: في النار خالداً مخلداً فيها، فيقال لهم: إذاً: قولكم هذا هو قول الخوارج.
فنحن قلنا: إن صاحب الكبيرة لا يكفر بحال من الأحوال إلا من قتل نبياً، فهذه المسألة فيها كلام آخر عند العلماء.
فلو أتى الرجل بأكبر الكبائر دون الشرك فهو ليس بكافر، وعلى ذلك نرد على هؤلاء الذين ابتدعوا هذه البدعة الشديدة، فإن كلامهم قد يشوش على العقل الذي لا يعلم الأدلة، ويجعل صاحبه في حيرة من أمره، وأدلتهم كما سبق هي عدة أحاديث منها: حديث: (ثنتان في أمتي هما بهم كفر، وذكر منها: النياحة على الميت)، وحديث: (لا ترجعوا بعدي كفاراً، يضرب بعضكم رقاب بعض)، وحديث: (ليس منا من لطم الخدود)، وحديث: (من غشنا فليس منا)، وحديث: (برئت الذمة ممن جلس بين أظهر المشركين).
فأما الحديث الأول: فقد سمى النبي صلى الله عليه وسلم فعل الكبيرة كفراً، والقاعدة عند أهل السنة والجماعة: أن كل كفر جاء نكرة فالمقصود به كفر دون كفر، وهذا ثبت بالاستقراء والتتبع، فإن أبى علينا أهل البدعة والضلالة وقالوا: الأصل في الكفر هو الكفر الأكبر، فنقول: تعالوا لننظر هل هناك قرائن صرفت هذا الكفر الأكبر أم لا؟ وعندها نظهر لهم القرائن الكثيرة التي دلتنا على عدم إرادة الكفر الأكبر، فحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض)، وما حدث بين علي ومعاوية: هي فتنة ظهرت، فقال الخوارج: هؤلاء كفرة؛ لأنهم حكموا الرجال وما حكموا الله جل في علاه، فهل معاوية وعلي ينطبق عليهم هذا الحديث؟
الجواب
لا؛ بدون أي شك، فقد قال الله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} [الحجرات:٩]، ولم يقل: وإن طائفتان من الكفار، بل سماهم مؤمنين، فسمى الطائفة الأولى طائفة مؤمنة، وسمى الطائفة الثانية طائفة مؤمنة، فقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا ترجعوا بعدي كفاراً)، يعني: كفراً دون كفر؛ لأن الله جل وعلا قد سماهم في القرآن مؤمنين.
وكذلك حديث النبي صلى الله عليه وسلم أثبت صرف الكفر إلى الكفر الأصغر، وذلك الحديث هو: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن ابني هذا سيد سيصلح الله به بين طائفتين من المسلمين)، والابن المراد هنا: هو الحسن بن علي، وسماهم مسلمين، والنبي صلى الله عليه وسلم هو نفسه الذي قال: (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض)، وسماهم كفاراً في هذا الحديث، وفي الحديث الآخر سماهم بالمؤمنين، فهذه دلالة على أن الكفر هنا غير مراد به الكفر الأكبر، ولكنه الكفر الأصغر فهو معصية وكبيرة ولا يصل إلى الكفر، ولو أتينا بهذا مع قول النبي صلى الله عليه وسلم: (سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر)، فيكون المراد: الكفر الأصغر، وليس الكفر الأكبر.
إذاً: فقد سمى الله المتقاتلين مؤمنين، فكيف نكفرهم نحن؟ فإن الله تعالى يقول: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات:٩].
وأما استدلالهم بأن النبي صلى الله عليه وسلم تبرأ من فاعل المعصية، والتبرؤ لا يكون إلا من الكفار، وذلك حيث قال: (من غشنا فليس منا)، وقال: (برئت الذمة ممن جلس بين أظهر المشركين).
فالرد على هؤلاء أن نقول: إن البراءة براءتان: براءة مطلقة، وبراءة مقيدة، فالبراءة المطلقة: تكون من الكفر، والنبي صلى الله عليه وسلم لا يتبرأ من أحد مطلقاً إلا إذا كان كافراً كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تراءى نارهما)، يعني: الكافر والمسلم.
وأما البراءة المقيدة: فإنها تكون براءة من عمل هذا الفعل، لكن صاحب العمل ليس بكافر، وإن كنا نبغض هذا العمل منه، ودليل ذلك من الكتاب والسنة، أما من الكتاب: فقد قال الله تعالى: {فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ} [الشعراء:٢١٦]، والبراءة هنا من العمل وليست من نفس الشخص المسلم، وأيضاً: عندما قتل خالد الذين قالوا: صبأنا، ولم يحسنوا أن يقولوا: أسلمنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد)، ولم يقل: أبرأ إليك من خالد، بل برئ من عمل خالد؛ لأن خالداً اجتهد وقال: هم قالوا: صبأنا، وما أسلموا، فقتلهم خالد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم إني أبرأ إليك من فعل خالد).
فالبراءة هنا براءة مقيدة، وليست براءة مطلقة، يعني: أن البراءة من شخص براءة مقيدة لا تدل على أنه كافر حتى وإن أتى بالمعصية، فإننا نتبرأ من هذه المعصية، وقد نحب المرء ونبغضه، أي: نحب المرء لتوحيده ولإسلامه، ولطاعته ولصلاته ولزكاته، ونبغضه لزناه ولشربه الخمر، ونبغضه لفجره، ونبغضه لفعله الفاحشة، فقد نبغضه من وجه، ونحبه من وجه آخر، فالبراءة منه هنا تكون براءة مقيدة بالعمل فقط، وليست براءة كلية مطلقة.
أما قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ثنتان من أمتي هما بهم كفر، فذكر النياحة على الميت) فالمراد هنا بالكفر: كفر دون كفر؛ لأن النائحة اللاطمة على وجهها ليست بكافرة، والدليل على ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم وضح أنه في عرصات القيامة تأتي النائحة ثم ينظر سبيلها إلى الجنة أو إلى النار، والكافر لا ينظر سبيله إلى الجنة أو إلى النار، بل سبيل الكافر إلى النار خالداً مخلداً فيها، فهذه دلالة من النبي صلى الله عليه وسلم على أن الأحاديث التي قالها واستدل بها المبتدعة محتملة، وقد فسرها النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث أخرى، فنرد المشتبه أو المحتمل إلى المقطوع به، فيدلنا ذلك على أن كل مؤمن وحد وقال: لا إله إلا الله، وسجد لله سجدة، فإنه لا يكفر بحال من الأحوال، ولو أتى بكل الكبائر، بل هو عاصٍ، وحكمه تحت المشيئة، إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له، وإن عذبه الله جل وعلا فإنما يعذبه بهذه المعصية حتى يصير حمماً، ثم يلقى في نهر الحياة، وبعد ذلك يدخل الجنة خالداً مخلداً فيها، فهذه أول الفوائد من هذا الحديث.