للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[الأدلة النظرية العقلية لإثبات صفة رؤية الله في الآخرة]

أما من ناحية النظر فمن قصة موسى عليه السلام، فعندما سمع موسى صوت الله جل وعلا، ارتقى واشرأبت عنقه إلى رؤية صاحب الصوت، {قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} [الأعراف:١٤٣]، فلما قال الله له ذلك استنبطنا من هذه الآية على أنه يجوز للمرء أن يرى ربه جل وعلا، بل وتأكدنا أن رؤية الله في الآخرة على اليقين، فقوله تعالى: (قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي) وأهل البدعة والضلالة يقولون: لن تروا ربكم؛ لأن الله قال: ((لَنْ تَرَانِي) فالاستنباط من هذه الآية كما يلي: أولاً: أن موسى عليه السلام سأل ربه فقال: (رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ)، فسؤال موسى لربه جل في علاه إما أن يكون أن هذا السؤال في محله أو يكون في غير محله، وحاشا لموسى وهو أعلم أهل الأرض في زمانه بالله جل وعلا، فكيف يسأل سؤالاً لا يجوز له أن يسأله، فإذا سأل موسى -وهو أعلم أهل الأرض بالله- علمنا أن موسى يعلم أن رؤية الله ممكنة.

ثانياً: لو كان هذا السؤال تنزلاً من باب التعدي فهل يقر الله جل وعلا على باطل؟! كلا، فنوح عليه السلام لما قال: {رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ * قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [هود:٤٥ - ٤٦]، ثم قال: {إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [هود:٤٦]، فلم يقر نوحاً عليه السلام عندما سأله إنقاذ ابنه، فبين الله له جل وعلا أن هذا السؤال من باب التعدي، فلا تسأل هذا السؤال.

فلو كان سؤال موسى عليه السلام من باب سؤال نوح لابنه لرد الله عليه ولما أقره، فلما أقره الله على سؤاله دل ذلك على أن رؤية الله ممكنة، ثم إن الله جل وعلا ما أنكر عليه بل قال له: {انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} [الأعراف:١٤٣]، فعلق الرؤية على ممكن؛ لأن الجبل ممكن أن يستقر، وأنت الآن لا تستطيع أن ترى ربك في الدنيا، لكن في الآخرة ستراه؛ لأن الله سيبدل القوة البصرية بقوة بصرية أخرى {فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق:٢٢]، فالعين المجردة لا تستطيع رؤية الله جل وعلا في الدنيا، قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: (حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه) فما يستطيع أحد رؤية الله جل وعلا، فلذلك قال الله جل وعلا: {فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} [الأعراف:١٤٣] فعلق الرؤية على ممكن، أي: لو استقر الجبل ستراني، فتعليق الرؤية على ممكن يدل على أن الرؤية أيضاً ممكنة، فهذا من باب النظر من أن المؤمن سيرى ربه جل في علاه في الآخرة، وأما في الدنيا فلا يمكن لمؤمن أن يرى ربه إلا في حالة واحدة وهي: في المنام أو الرؤية القلبية.

<<  <  ج: ص:  >  >>