للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[أقسام النزول]

ثبت بإجماع أهل السنة والجماعة أن نزول الله جل وعلا ينقسم إلى قسمين: نزول عام في الوقت وفي الأشخاص، هذا النزول الذي يعم الوقت والأشخاص هو نزوله كل ليلة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ينزل ربنا حين يبقى ثلث الليل الآخر).

فكل ليلة حين يبقى ثلث الليل الآخر ينزل ربنا إلى السماء الدنيا نزولاً يليق بجلاله وكماله سبحانه جل في علاه، عام في الوقت وعام في الأشخاص، وهذا النزول يعم المؤمن والكافر، والبر الفاجر، فالله ينزل إلى السماء الدنيا ينادي كل عباده بلا استثناء يقول: هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من تائب فأتوب عليه؟ فلو أن الكافر تاب إلى ربه تاب الله عليه (فالتائب من الذنب كمن لا ذنب له)، والإسلام يجب ما قبله، فهذا عام للمؤمن والكافر، والبر والفاجر.

القسم الثاني: نزول خاص تشريفاً وإكراماً وهذا النزول الخاص يكون أولاً: للحجيج الذين مكنهم الله من الوقوف بعرفة، فيدنو الله جل وعلا من عباده الذين يقفون بعرفة شعثاً غبراً، فيباهي الله الملائكة بهؤلاء، وهذا خاص بأهل الحج، فيقول: (انظروا إلى عبادي جاءوني شعثاً غبراً اشهدوا أني قد غفرت لهم).

ونزول يخص العباد المؤمنين دون الكافرين، وهذا النزول يختلف عن النزول الأول، فهذا يخص كل المؤمنين بخلاف الكافرين، ويخص من المؤمنين أصحاب القلوب النقية، الذين ليس في قلوبهم الغل والحقد والحسد والمشاحنة، وهذا النزول يكون ليله النصف من شعبان قال صلى الله عليه وسلم: (ينزل ربنا ليلة النصف من شعبان فيغفر لكل مؤمن)، فيغفر لكل أحد إلا المشاحن أو الكافر، فليلة النصف من شعبان، ثبت فيها هذا الفضل أن الله ينزل إلى السماء الدنيا فيغفر لكل مؤمن إلا المشاحن.

ووردت أدلة على نزول خاص ولكن في أسانيدها كلام، فقد ورد عن ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه أنه قال: قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: (إن الله ينزل إلى السماء الدنيا في شهر رمضان، يمحو ما يشاء، ويثبت ما يشاء، يرفع ما يشاء ويخفض ما يشاء، يعطي من يشاء ويمنع من يشاء)، تصريف أمر العام كله، ولكن في سنده كلام لكن نستأنس به على أن هذا نزول يخص الزمان وهو شهر رمضان.

الأخير: نزول يوم القيامة، فقد ورد عن ابن مسعود رضي الله عنه، رواه ابن منده عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله يحشر الأولين والآخرين أربعين سنة أبصارهم شاخصة حتى ينزل الله جل وعلا، ينزل من على عرشه إلى الكرسي في ظلل من الغمام، ليفصل بين العباد) وهذا نزول خاص بيوم القيامة، فينزل من على عرشه سبحانه تعالى ولا نقول: إن العرش يخلو أو لا يخلو، بل ينزل من على عرشه وهو عليٌ جل في علاه، فينزل إلى كرسيه ليفصل بين العباد.

وإذا اعتقد المرء اعتقاداً ثابتاً راسخاً بأن الله ينزل إلى السماء الدنيا في الثلث الأخير من الليل والناس نيام في سبات عميق والناس في غفلة فعندما يقوم حين يبقى ثلث الليل الآخر، وهو يعلم أن ربه الآن أقرب ما يكون منه سبحانه وتعالى نزل من عرشه وهو علي نزولاً يليق بجلاله إلى السماء الدنيا، والسماء الدنيا لا تظله ولا تقله، ولا شيء يحيط بالله جل وعلا، والله يحيط بكل شيء، حتى لا نكيف النزول؛ وهو قائم إما أن يكون مستغفراً أو تائباً أو مصلياً متهجداً، فيذكر ذنوبه ويذكر خطاياه، ويذكر اجتراءه على حدود الله جل وعلا فيؤلمه ذنبه فيستغفر ربه وهو يعلم أنه إذا ناجى ربه في هذا الوقت فهو قريب سيغفر له؛ لأنه لا أصدق من الله قيلاً؛ فيئوب إليه، ويرجع إليه ويتذكر العبد الذي قام لربه، يقول: رب! أذنبت ذنباً فاغفر لي فيقول الله جل وعلا: (علم عبدي أن له رباً يأخذ بالذنب ويغفر، اشهدوا أني قد غفرت له)، ويأتي فيفعل نفس الذنب مرة ثانية ثم يستغفر فالله جل وعلا يقول: (عبدي علم أن له رباً يأخذ بالذنب ويغفر قد غفرت له، وفي الثالثة يقول: عبدي افعل ما شئت ثم ائتني فاستغفرني فسأغفر لك) فباب الاستغفار مفتوح في كل ليلة، كما قال أبو بكر لـ عمر بعدما ولاه وهو على سرير الموت: يا عمر! اتق الله في الرعية، فإن لربك عملاً بالنهار لا يقبله بالليل، وإن له عملاً بالليل لا يقبله بالنهار.

فإن فرط العبد في النهار فعنده ثلث الليل الآخر يستغفر ربه على ما فرط، وإن عصى وأذنب يستغفر ربه على ذلك فسيغفر له، فإن الله جل وعلا يقول: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة:١٨٦].

وإن الله كريم لا يمكن أن يردك خائباً، فقد جاء في الترمذي بسند صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله حيي كريم) انظروا إلى كرم الله وجود الله وعطاء الله، لقد أعطى منذ خلق السموات والأرض، ومنذ آدم عليه السلام إلى آخر الخليقة، ولم ينفد مما عنده شيء سبحانه وتعالى، ولا ينقصه شيء، فالله جلا وعلا خزائنه ملأى لا تنفد أبداً، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله حيي كريم يستحيي أن يرفع العبد يديه إليه فيردهما خائبتين) وقال الله تعالى في الحديث القدسي: (يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا على صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل واحد مسألته ما نقص ذلك مما عندي شيئاً) فينتهز العبد الذي اعتقد أن الله في السماء قد نزل نزولاً يليق بجلاله وكماله، فيتعبد ويقول: ربي أعتقد اعتقاداً جازماً أنك الآن في السماء الدنيا تعطي من سألك، وإني أسألك، وأعلم أنك لن تردني، فيعمل بذلك الاعتقاد الصحيح ويدعو ربه، ويقسم بالله مهما دعا من دعا فإن الله سيستجيب له.

ثم يذكر أن الله جل وعلا عندما يقول: هل من تائب فأتوب عليه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من مستشف فأشفيه؟ فما من مرض وما من داء إلا وله دواء، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن لكل داء دواء، فإذا أصاب دواء هذا الداء برئ بإذن الله).

والدواء دواءان: دواء شرعي ودواء مادي، أما الدواء الشرعي فهو بالقرآن وبالسنة وبالرقى الشرعية، ويالخسارة المعتزلة والجهمية، ويا لخسارة أهل البدع الذين لا يعتقدون في الله الاعتقاد الصحيح! ويا لخسارة الذين لم يتعلموا أسماء الله الحسنى! فيتعبدوا لله بها، فمن اعتقد في الله الاعتقاد الجازم الصحيح فهو يعلم أن الدواء الشرعي هو أنفع دواء له، ويعلم أن الله جل وعلا سيشفيه، وأن الشفاء بيد الله لا بيد الطبيب ولا ببد أحد، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم عندما كان يرقي المريض: (اللهم! اشفِ فأنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك شفاءً لا يغادر سقماً) فالشفاء بيد الله، وكل الناس أسباب.

ومن أسباب الشفاء كذلك: الحبة السوداء أو حبة البركة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (حبة البركة دواء من كل داء إلا السام) فمن باب أولى أن تكون الفاتحة والمعوذات والنفخ فيهما، ثم الرقية الشرعية التي كان يرقي النبي صلى الله عليه وسلم بها نفسه ويرقي بها غيره، وإذا رأى مريضاً قال: (أرقوها) فهذه إذا اعتقدها المرء اعتقاداً جازماً فعمل بها، فوالله! سيفوز فوزاً عظيماً، وهذا هو أثر الاعتقادات الصحيحة، فإنك إذا اعتقدت في ربك أنه ينزل إلى السماء الدنيا فإنك تنتهز هذه الفرص، فتتعبد لله بهذا الاعتقاد الصحيح الجازم.

أما أهل البدعة والضلالة أيضاً ما تركونا نتعبد لله بهذه الصفات، فقد نفوا نزول الله، وقالوا: لو نزل لشبهتم الخالق بالمخلوق، بل إنها تنزل رحماته وتنزل ملائكته، والرد عليهم بأن نقول لهم: حجرتم واسعاً أيها الأغبياء! ألا ينزل أمر الله جل وعلا في ثلث الليل الآخر فقط والله جل وعلا يقول: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن:٢٩]؟ وكما قال ابن مسعود: يرفع أقواماً ويخفض آخرين ينزع من هذا سلطانه ويعطي هذا سلطانه، ويميت هذا ويحيى هذا، ويتخذ هؤلاء شهداء، ويجعل هؤلاء في النار، ويجعل هؤلاء في الجنة، {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن:٢٩].

فإذاً حجرتم واسعاً وقلتم: إن أمر الله جل وعلا لا ينزل إلا في ثلث الليل الآخر، خالفتم ظاهر القرآن، وظاهر السنة، وإجماع أهل السنة.

وإذا قالوا: تنزل رحمته، فقد حجرتم واسعاً، أرحمة الله لا تنزل إلا في الثلث الليل الآخر؟ النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله خلق مائة رحمة أنزل في الدنيا منها واحدة، يتراحم بها الجن والإنس والبهائم) واحدة من مائة رحمة والباقي عند الله جل وعلا في عرصات يوم القيامة، فكيف يقال: إن رحمة الله لا تنزل إلا في الثلث الأخير، فهذا كلام أبعد ما يكون، والرد عليهم تفصيلاً لن يكون في هذا الباب إلا إذا دخلنا في صفة النزول؛ لأننا نذكر الفوائد المستنبطة.

<<  <  ج: ص:  >  >>