للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[عصمة الرسل]

عصمة الرسل تنقسم إلى ثلاثة أقسام: الأول: عصمة في التبليغ وفي الوحي، وهذه بإجماع الأمة بأسرها، فقد أجمعت على أن الرسل معصومون في الوحي وفي التبليغ، فهم يبلغون الرسالة ولا ينسون ولا يخطئون أبداً، قال الله تعالى: {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَى} [الأعلى:٦] وقال عز وجل: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} [القيامة:١٧] إلى قوله: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة:١٩].

فالله جل وعلا تكفل لكل رسول بعصمته في الاستقبال للوحي وفي التبليغ، فبالإجماع لا يمكن أن يخطئ رسول في أمر الوحي، وأيضاً ليس للرسول أن يأتي بقول من عنده، قال الله تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} [الحاقة:٤٤ - ٤٦] فهذه دلالة على أنه ليس لرسول أبداً أن يأتي بشيء من عنده، ولذلك جاء في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء) أي: وهو أمين الوحي صلى الله عليه وسلم.

الثاني: العصمة من الكبائر، فقد أجمعت الأمة أيضاً على أن الرسل معصومون من الوقوع في الكبائر، إذ كيف يقعون في الكبائر وهم قدوة وأسوة للناس، وهم المنارات التي يهتدى ويقتدى بها؟! وقد تكفل الله بعصمة الرسل من الكبائر، فهذا يوسف عليه السلام: {رَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [يوسف:٢٣] فقال الله تعالى مصوراً تصويراً بديعاً هذه القصة: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف:٢٤] وألطف وأعجب ما يقال في تفسير هذه الآية: أنه لولا أن رأى برهان ربه لهم بها، يعني: وما حدث منه الهم بحال من الأحوال؛ لأن (لولا) حرف امتناع للوجود، فامتنع همه بها لوجود برهان الله، هذا مفهوم الكلام، وليس كما يقول بعضهم: إنه هم بها فصرفه الله، فأصل الهم غير موجود؛ لأن الله جل وعلا قال: ((لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ)) يعني: لولا أن رأى برهان ربه لهم بها، فامتنع وجود الهم لوجود برهان الله جل في علاه.

{وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف:٢٤] فهذه دلالة على أن كل الرسل من المخلصين، وأن الله جل وعلا تكفل بعصمة كل الرسل من الكبائر، وهذا بالإجماع.

الثالث: العصمة من الصغائر، فهناك خلاف بين أهل السنة والجماعة في مسألة الصغائر، هل يقع فيها الأنبياء والرسل أو لا؟ قال بعض أهل العلم: الأنبياء لا يقعون في الصغائر بحال من الأحوال، ويستدل على ذلك بقول الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:٢١] وقول الله تعالى: (فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام:٩٠] يعني: اقتده بهدى الأنبياء واتخدهم أسوة لك، فإذا قلنا: إنهم يقعون في الصغائر فقد أمرنا بالتأسي بهم في اقتراف المعاصي وهذا محال، ولا يمكن لله جل وعلا أن يأمرنا أن نأتسي بالأنبياء في اقتراف الصغائر، فهذه الآيات فيها دلالة على أن الأنبياء معصومون من فعل الصغائر، وهذا القول ضعيف، والقول الراجح الصحيح الذي ندين الله به هو قول الجمهور، وهو أن الأنبياء غير معصومين من فعل الصغائر، فهم يقعون في الصغائر، ومما يدل على ذلك قول الله تعالى: (وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [طه:١٢١] فقوله: ((وعصى)) تصريح من الله جل وعلا أن آدم وقع في العصيان، وأيضاً قال الله تعالى حاكياً عن موسى عندما وكز الرجل: (قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ} [القصص:١٥] فهذه دلالة على أنه وقع في المعصية.

وفي حديث الشفاعة قال آدم: (فعصيته) وعيسى عليه السلام لما أحال الناس إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولم يذكر ذنباً قالوا: فيه تصريح أنه لم يقع في الذنوب.

فالله جل وعلا قد أثبت العصيان للأنبياء في الصغائر فقط، فنثبته كما أثبته الله جل في علاه، لكن لا بد أن نقول: إن الله لا يقر نبياً على أي صغيرة، بل يبينها له في وقتها ويتوب عليه، والتائب من الذنب بعد توبته يكون حاله خيراً من حاله قبل التوبة؛ ولذلك جاء في الحديث (التائب من الذنب كمن لا ذنب له) ويقول بعض السلف: إن داود عليه السلام كان حاله بعد التوبة أفضل من حاله قبل التوبة، وقلنا: إن التوبة تودع في القلب المسكنة والخضوع والتذلل لله جل وعلا، والبكاء من خشية الله، والخوف من عقوبة الله، والهرولة في طاعة الله جل في علاه، وإتباع الحسنة بالسيئة تمحها، فهذه كلها أحوال للذي تاب من الذنب، ولا تكون للذي لم يتب أولم يقترف هذا الذنب.

إذاً فالصحيح الراجح أن الأنبياء يقعون في الصغائر، لكن هناك أمر لا بد أن نتكلم فيه، ألا وهو أن الأنبياء معصومون من الصغائر التي فيها دناءة وخسة، فلا يمكن أن يأتي النبي فيسرق لقمة ليأكلها حاشا لله، لكن من ممكن أن يقع في معصية، كآدم حين نهاه الله أن يأكل من الشجرة فأكل منها هو وزوجته وقالا: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:٢٣]، فهذه دلالة قوية على أنهم عصوا أمر الله جل في علاه، وليس معنى ذلك أن يقع في الصغائر الخسيسة التي تخدش المروءات كما بينا.

أما الرد على الذين قالوا: بأن الأنبياء معصومون من الصغائر؛ لقول الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:٢١] فهو أننا وإن كنا نوافقهم على ذلك، ولنا في رسول الله أسوة حسنة، إلا أنه ليس لنا أسوة حسنة في الصغائر التي يقع فيها؛ لأنه لا يقر عليها، وقد تاب منها، ونحن لنا فيه أسوة حسنة في التوبة؛ لأننا جبلنا على المعصية، فالإنسان ظالم جهول لنفسه، ولا يمكن أن ينجو من المعاصي، ودخوله الجنة لا يكون إلا برحمة الله وفضله، فقد ورد في الحديث: (لن تدخلوا الجنة بعملكم، قالوا: ولا أنت يا رسول الله، قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته) أي: لا بد أن تنزل رحمات الله جل في علاه على هذا الإنسان، ولذلك قال الله تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنِ اللَّهِ) [النحل:٥٣] وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث، فأصلح لي شأني كله ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين) وذلك لأن النفس ظالمة جهولة.

إذاً: لنا أسوة برسول الله صلى الله عليه وسلم وبالرسل أجمعين في التوبة، وذلك بأن نسارع في التوبة ولا نقر أنفسنا على هذه المعاصي.

<<  <  ج: ص:  >  >>