للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[حقيقة الخلة ومعناها وبيان من يستحقها]

الخلة هي أعلى درجات المحبة، والخلة معناها: أن تتخلل محبة الله الروح، فيعتقد العبد أنه لا يعيش إلا لله، ولا يموت إلا الله، وليس له شيء، فهو لله وفي الله ومع الله، وقلبه كله معلق بالله، ولو وضعت الدنيا بأسرها في كفة ووضع رضا الله في كفة تراه مسارعاً إلى رضا الله جل في علاه، وترى البلاء ينصب عليه صباً، فهذا هو الذي اتخذه الله خليلاً، فإبراهيم عليه السلام ابتلاه الله جل في علاه، لينظف قلبه حتى لا يكون فيه ثمة شيء إلا محبة الرحمن جل في علاه، فقد ابتلي بكفر أبيه، وقال الله تعالى عن أبيه أنه قال له: {قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا} [مريم:٤٦] فهو يأمره بأن يخرج من بلدته.

ثم ذهب إبراهيم إلى النمرود عليه من الله ما يستحق، وكان له وزير سوء كما في حديث النبي صلى الله عليه وسلم (ما من نبي ولا ولي ولا خليفة استخلفه الله على الأرض إلا جعل الله له بطانتين: بطانة خير تدله على الخير وتعينه عليه، وبطانة سوء تدله على الشر وتمسك عنه الخير، فمن أراد الله به خيراً جعل له بطانة الخير) فبطانة النمرود كان وزير سوء، فقال للنمرود: إن رجلاً دخل هذه القرية ومعه امرأة جميلة، وكانت سارة عليها رضوان الله، من أجمل النساء؛ لأن العلماء يقولون: إن يوسف كما أخذ شطر الجمال من آدم أخذت سارة شطر جمال حواء عليهم السلام - فلما قيل للنمرود ذلك أمر بأن يؤتى بإبراهيم، فلما أتي بإبراهيم قال له: من هذه المرأة؟ فقال: هي أختي - وهذه التي صرح أنه كذب فيها من الثلاث الكذبات - ثم ذهب ثم ذهب إلى سارة فقال: ليس هناك أحد مسلم في هذه الأرض غيري وغيرك وإني قد سألني عنك فقلت: إنك أختي فلا تزيدين على ذلك، فأمر النمرود أن يؤتى بـ سارة إليه، فابتلي إبراهيم ابتلاء شديداً وزلزل زلزالاً شديداً؛ لأن امرأته عند رجل طاغية لا يتقي الله في شيء، وهي امرأة جميلة، وهو ما أرادها إلا لنفسه، فذهبت المرأة وقلب إبراهيم يرتجف مما سيحدث مع امرأته، لكنه متوكل حق التوكل على ربه جل في علاه، ومستيقن أن المليك المقتدر جبار السماوات والأرض أن سيدبر الأمر من فوق العرش، فهو يعلم من يتقدم ومن يتأخر، بل لا يتقدم أحد ولا يتأخر إلا بأمره ومشيئته، فعندما جيء بالمرأة ودخل عليها يريدها، فكان كلما اقترب منها ومد يده إليها أخذ أخذاً شديداً، فقال: لا أقربك بسوء فادعي الله أن يفرج عني فتدعو الله له فيفرج الله عنه، ثم يأتيها مرة ثانية فيؤخذ أخذاً شديداً فيقول لها: ادعي الله أن يفرج عني ولا أمسك بسوء، فتدعو الله له فيفرج عنه، وهذا من كرامات الله جل وعلا لأوليائه وحفظه لهم، فوالله الذي لا إله إلا هو إن الله لا يسلم أولياءه لأعدائه أبداً، وإن فعل الله ذلك فلحكمة أعظم من هذا الفعل بكثير، علمناها أو جهلناها فهي عند الله، لكننا نثق بأنه لا يكون في الكون شيئاً إلا بإرادته، وإرادته ومشيئته تحت حكمته وعلمه، كما قال الله تعالى قبلها: (إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا * يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ} [الإنسان:٣٠ - ٣١] فمشيئة الله تخضع لعلمه وحكمته سبحانه وتعالى، فمن رحمته ولطفه أنه حفظ سارة، فقال لها النمرود في الثالثة: ادعي الله لي ولن أمسك بسوء فدعت الله ففرج عنه فأعطاها هاجر، ثم قال لوزيره: أنت وزير سوء، فقد أتيتني بشيطان ولم تأتني بامرأة، ثم ذهبت ورجعت إلى إبراهيم عليه السلام.

ومن البلاءات التي ابتلي بها إبراهيم أنه الله أمره أن يضع امرأته وابنه الوليد في أرض قاحلة ليس بها شيء، قال: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم:٣٧] ولذلك قالت المستيقنة بربها: يا إبراهيم آلله أمرك بهذا، فبين لها أن هذا استسلام لأوامر الله، وما ماء زمزم التي منحنا الله إياها إلا ببركة وجود هاجر رضي الله عنها وأرضاها، والبلاء الأشد الذي حصل لإبراهيم أنه لما بلغ معه الولد السعي وأخذ جزءً من شغف قلبه غار الله أن يكون في قلب خليله محبة لأحد غيره، فأراد سبحانه أن يقطع هذه العلاقة، فأمره أن يذبحه، انظروا إلى الإيمان والاستسلام، اللهم ارفعنا إلى هذه الإيمانيات يا رب العالمين، ونظف قلوبنا من كل الذنوب والأرجاس واجعلنا من الذين يوحدونك توحيداً خالصاً لوجهك الكريم.

فإبراهيم لما رأى الرؤية أن اذبح ولدك استسلم وقال: {يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} [الصافات:١٠٢]، وقال الولد: {يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} [الصافات:١٠٢]، وهنا استسلام تام لله جل وعلا، فلما علم الله جل وعلا من عبده وهو العليم الخبير أنه لا شيء في قلبه إلا الله، قال: يا إبراهيم {قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} [الصافات:١٠٥]، يعني: ليس المقصود تذبح الذبح، وإنما المقصود هو نقاء القلب من كل شيء، إلا رضا الله وحب الله، لذلك أنزله الله هذه المنزلة واتخذه خليلاً.

والنبي صلى الله عليه وسلم عندما عرض نفسه على العشائر والطوائف ردوا عليه بأقبح الردود، وتآمرت قريش على قتله، وقبل ذلك تآمروا على حبسه وحبس من معه من المؤمنين، ومن الابتلاءات التي ابتلي بها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن كفار قريش وضعوا له الأملاك والأموال وكل الوجاهات حتى يتنحى عن هذا الدين، فما رجع عن دينه طرفة عين، وهكذا فقد صبر الرسول الله صلى الله عليه وسلم صبراً شديداً كما ورد في المسند وغيره بسند صحيح: (أوذيت في الله ما لم يؤذ نبي قط) وذلك لأن الإيذاء المعنوي أشد بكثير من الإيذاء الحسي، فالله تعالى رفعه بذلك منزلة عظمى وهي منزلة الخلة، قال: (اتخذني الله خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً).

نسأل الله جل وعلا أن يجعلنا من المتبعين لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وممن يتعلمون التوحيد فيحققونه واقعاً بين الناس.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

<<  <  ج: ص:  >  >>