لقد جعل الله جل وعلا لـ جريج الراهب كرامة، فكان جريج -كما وصف لنا النبي صلى الله عليه وسلم- عابداً ناسكاً في صومعة من صوامع بني إسرائيل، وكان زاهداً ترك الدنيا بأسرها ليتعبد ويتنسك لله جل في علاه.
ففي ذات مرة جاءت إليه أمه وقالت: يا جريج! وكان في صلاته، لكن الفقه لم يصل إليه فقال: يا رب! أمي وصلاتي، أي: هل أبقى على ما أنا عليه بين يديك، أم أجيب أمي؟ فنازعه الأمر كثيراً حتى قال: لا، أكون في صلاتي، فرجح ألا يخرج من الصلاة ولا يجيب أمه، فغضبت منه أمه غضباً شديداً؛ لأنه لم يرد عليها، فقالت: لا أماتك الله حتى تنظر في وجوه المومسات.
وهذا فقه عظيمٌ غفل عنه كثير من الناس وهو: أن بر الوالدين يقدم على كثير من الصلوات والصيام والنفقات؛ لأنه مقترن بالتوحيد، حيث قال:{وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ}[الإسراء:٢٣]، ثم قرن الله به عبادةً هي من أجل العبادات، حيث قال:{وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}[الإسراء:٢٣]، فمن أراد الإحسان فعليه بتوحيد الله ثم بر الوالدين، ولذلك: لما جاء الرجل يريد أن يجاهد في سبيل الله، قال له النبي صلى الله عليه وسلم:(أحي والداك؟ قال: نعم، قال: ففيهما فجاهد)، وقال للآخر:(اذهب فأضحكهما كما أبكيتهما).
فبر الوالدين من أوجب الواجبات، فإذا تعارض هذا الواجب مع مستحب أو نافلة فلا بد أن يقدم الواجب، ولا بد من تقديم الأهم على المهم، فما بالكم بتقديم الواجب على المستحب؟! وجريج لم يتوسع في الفقه، فلم يجب أمه فغضبت عليه فدعت عليه، ففي ذات مرة جاء بنو إسرائيل، وأخذوا امرأة باغية تفعل الفاحشة، فقالوا: عليك بهذا الرجل جريج، أي: افتنيه، فاتفقوا معها على بعض المال، فذهبت إلى جريج تراوده عن نفسه، لكنه كان بائعاً نفسه لربه جل في علاه، فأبى عليها، فلم تستطع أن تفتنه عما هو فيه، فرجعت أدراجها خائبة فوجدت راعياً فمكنته من نفسها فوطئها فحملت منه، فلما حملت منه أنجبت وقالت: هذا الطفل من جريج العابد، فتعجب بنو إسرائيل من جريج، لكن عندما كان متقياً عابداً متنسكاً لم يضع الله جل وعلا عبادته هباءً، فأتوا عليه فهدموا صومعته وعذبوه وأخذوه وأهانوه، فلما أهانوه، واللاتي يفعلن الفاحشة واقفات أمامه، وهو ينظر إليهن، فلما نظر إلى وجوههن تبسم، وتذكر دعاء أمه، وعلم في هذه اللحظات أنه أخطأ في حق أمه، وكأنه يراجع نفسه ويندم على ما فعل مع أمه، ثم قال لهم: ائتوني بالطفل، فجاء الطفل فغمزه وقال: من أبوك؟ فقال: أبي فلان الراعي، فلما سمعوا من الطفل هذا الكلام علموا أنها كرامة لهذا الصالح العابد المتنسك، فقالوا: نبني لك صومعةً من ذهب، فقال: لا، أعيدوها كما كانت.