[الرد على من استدل بحديث القبضة على عدم كفر تارك الصلاة]
واستدل المصنف بحديث آخر وهو أرجا حديث عند أهل السنة والجماعة، وهو حديث القبضة: (أن الله يقبض قبضة فيخرج من النار من قال: لا إله إلا الله ولم يعمل خيراً قط)، ولنا وقفة مع هذه اللفظة؛ إذ إن من العلماء من يقول بعدم كفر تارك الصلاة ويتمسكون بهذا الحديث، فيقولون: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يخرج من النار من لم يعمل خيراً قط)، ونحن لا نوافق على هذا, وهذا أضعف ما يكون, والرد عليه من وجهين: الوجه الأول: أنهم يوافقوننا أن قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لم يعمل خيراً قط) مخصوص بأعمال القلوب؛ إذ لا يمكن أن نقول: إن هذا الذي يخرجه الله جل وعلا ليس عنده أصل التوكل أو الخوف أو الرجاء أو المحبة, فأفعال القلوب ركن ركين من أركان الإيمان, فمن فقد أصل التوكل فقد الإيمان, ومن فقد أصل الخوف من الله فقد الإيمان, ومن فقد أصل الرجاء فقد الإيمان, فأعمال القلوب نحن وهم متفقون على أنها ركن ركين من الإيمان, فلو خلا القلب من أعمال القلوب فإن صاحبه يكون كافراً، كما سنبين عند الحديث الآخر الذي استدل به المصنف، وهو حديث الرجل الذي قال: (فذروني وألقوني في البحر، فلما سأله الله عن سبب فعله قال: مخافتك)، والمخافة عمل قلبي، فهذه دلالة على تخصيص معنى: (من لم يعمل خيراً قط) بأعمال القلوب.
فكما أبحتم لأنفسكم أن تخصصوا العموم في قوله (من لم يعمل خيراً قط) بأعمال القلوب، فنحن أيضاً عندنا نصوص قواطع تجعلنا نخصص هذا النص، كقول النبي صلى الله عليه وسلم: (بين المرء وبين الشرك أو الكفر ترك الصلاة)، والشرك والكفر هنا معرف بالألف واللام العهدية، يعني: الكفر الذي تعهدونه وتعلمونه، وهو الذي يخرج من الملة, وهذا يخصص قول الله تعالى: (من لم يعمل خيراً قط) فكما خصصناه بالخوف والرجاء والتوكل فكذلك نخصصه بالصلاة, فيكون معنى الكلام: لم يعمل خيراً قط سوى الصلاة.
فمثلاً رجل اسمه محمد وهو من يوم أن خلقه الله جل وعلا وإلى أن مات لم يسجد لله سجدة، ولم يركع لله ركعة، فهل نقول: إنه مؤمن؟! والله هذا ليس بمؤمن بحال من الأحوال، ولا يؤمن باليوم الآخر، ولا أنه سيقف أمام ربه جل في علاه.
والرد الثاني على هذا الاستدلال: نقول: إن معنى: (لم يعمل خيراً قط) كما قال المصنف ابن خزيمة رحمه الله هنا: العرب يقولون: لم يعمل خيراً قط في الذي لم يتم الكمال، يعني: في الأمر الناقص غير التام.
واستدل على ذلك برواية في مسند أحمد بسند صحيح على ما فيها من الضعف أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فيخرجون رجلاً من النار فيقولون له: عملت خيراً قط؟ فيقول: لا)، فهو هنا نفى أن يكون عمل خيراً قط, (فيقولون: عملت خيراً قط؟ فيقول: لا، غير أني كنت أتسامح مع الناس في البيع والشراء)، فهنا لم يعمل خيراً قط إلا أنه كان يتسامح في البيع والشراء، وهذا فيه تخصيص لدلالة أنه لم يعمل خيراً قط، وهذا جزاء وفاق وأجر طباق، {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ} [الرحمن:٦٠] , فيقول الله تعالى: (تسامحوا عن عبدي كما كان يتسامح مع عبادي) , فهنيئاً للتجار الذين يعملون بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (سمحاً إذا اقتضى، سمحاً إذا باع، سمحاً إذا أشترى)، والويل ثم الويل للتجار الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: (يا معشر التجار! تبعثون يوم القيامة فجاراً إلا من صدق وبر)، فانظروا إلى فضل الله جل وعلا حيث يقول: (تسامحوا عن عبدي كما كان يتسامح عن عبادي) , وفي رواية أخرى: (يخرجون رجلاً من النار يقولون: عملت خيراً قط؟ فيقول: لا، غير أني قلت لأولادي: إذا أنا مت فاسحقوني وذروني وألقوني في الريح وفي الماء؛ إن الله لن يقدر عليّ أبداً، فيجمعه الله جل في علاه)، وفي هذه الرواية التي أتى بها المصنف قال: (إن الله لن يقدر عليّ أبداً، فلما جمعه الله قال: ما الذي حملك على ذلك؟ قال: مخافتك, فلما علم الله من صدق قلبه أنه يخشى منه, قال: ادخل الجنة برحمتي).
بين لنا المصنف صفات أهل الجنة، وآخر أهل الجنة دخولاً كما يصف ذلك النبي صلى الله عليه وسلم: وهو يتبسم (إن آخر أهل الجنة دخولاً رجل يحبو على يديه ورجليه حتى يصل إلى ظل شجرة، ثم يصل إلى الجنة، فينظر فلا يستطيع أن يصبر)، وفي روايات أخرى يسأل ويقول: (لا أسأل مرة ثانية, فيقول الله: يا ابن آدم ما أغدرك! فيسأل مرة ثانية, حتى يصل إلى الجنة فينظر إليها فلا يستطيع أن يصبر، والله يعذره؛ لأنه يرى ما لا صبر عنه, فيقول: ربي أدخلني الجنة, فيقول: اذهب فادخل الجنة, فيذهب ليدخل الجنة وهو يصدق بموعود الله, فيعود ويقول: ربي وجدتها قد ملئت! أتسخر مني؟ أو قال: أتضحك مني وأنت رب العالمين؟ فيضحك الله جل وعلا ويقول: اذهب ولك مثل الدنيا وعشرة أمثالها).