للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[ذكر ما جاء في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم في الإسراء والمعراج، وتكذيب قومه له، وموقف أبي بكر]

لقد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الرحلة الميمونة المباركة عجباً وأمراً مذهلاً تشيب له الرءوس والولدان، فقد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أقواماً في جهنم أفواههم كأفواه البعير يلتقطون جمراً من النار فيأخذونها في أفواههم فتنزل من أسفلهم فتخرج، ورأى أقواماً أيضاً يسبحون في نهر من الدماء، ويقف رجل على شط النهر ومعه حجر، فكلما اقترب هذا السابح في نهر الدماء من الخروج فغر فاه فألقمه الحجر فرجع كما كان، ورأى أقواماً بطونهم عظيمة فيها الحيات، وكلما أرادوا أن يقوموا انقلبوا على ظهورهم، ثم رأى أقواماً يلتفون حول الجيف يأكلون من هذه الجيف، وأقواماً لهم شرائح من اللحوم، وهذه اللحوم طيبة، فينظرون إليها فيتركونها، وينظرون إلى لحوم منتنة فيذهبون فيأكلونها، وآخرين لهم أظافر من حديد يخمشون به لحومهم وظهورهم، ورأى النساء تعلق كل امرأة من ثديها، فتعجب واندهش, ثم سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هؤلاء الأقوام فقيل له: أما المرأة التي تعلق من ثديها فهن الزانيات، وتحتهن نار كلما اشتعلت عليهم ارتفعوا وضوضوا، أي حدثت ضوضاء وحدثت أصوات كثيرة وشديدة من عذابهم.

وأما الأقوام الذين يلتقطون الجمر ويأخذونها بأفواههم وتخرج من أسفلهم، فهؤلاء الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً، وقد قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء:١٠].

وأما الذي فغر فاه وألقمه الحجر وهو يسبح في نهر من الدم، هؤلاء آكلوا الربا والعياذ بالله، وأمثالهم الذين يتجرءون على حرمات الله ويأكلون الربا بالحيل، كما ورد في بعض الأحاديث الضعيفة وإن كان معناها صحيح: (يأتي زمان على أمتي يأكلون الربا بالبيع، يسمونه بيعاً وهو ليس بالبيع) بل هو حيلة على رب البرية جل في علاه.

قال: وأما الذين بطونهم عظيمة فيها الحيات، كلما قام منهم القائم ينقلب على ظهره مصداقاً لقول الله تعالى: {لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} [البقرة:٢٧٥]، وأما الآخرون الذين يخمشون وجوههم فهؤلاء هم الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم.

والغرض المقصود أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى عجباً، وكل ذلك يشير لنا إلى أحقية أن نؤمن ونعتقد بعذاب القبر وإن كان الميت في بطون السباع، فإن الله سيعذبهم بهذا العذاب حتى تقوم الساعة.

وبعد ما انتهى نبي الله صلى الله عليه وسلم من هذه الرحلة الميمونة المباركة وامتلأ صدره إيمانا وحكمة وعلماً، نزل إلى مكة يؤسس الدولة الإسلامية، ينشر هذه الدعوة لكنه لاقى ما لاقى من أهل مكة لما جلس يذكر ما رآه من بيت المقدس، فقام أبو جهل والوليد بن المغيرة ومن معهم من صناديد قريش فقالوا له: أين كنت أمس؟ قال: كنت في بيت المقدس، فأخذوا يسخرون منه ويستهزئون، ويضحك أبو جهل ويقول: رأيت إبراهيم، رأيت موسى، رأيت عيسى، صف لنا موسى، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أما موسى فكان رجلاً أسمر صخماً، وأما عيسى فكان أحمر ربعة، وأما إبراهيم فأنا أشبه الخلق به، وهو يتكلم بقوة؛ لأنه يعلم أن هذا هو الحق الذي أراه الله جل في علاه.

فأخذوا يستهزئون، فقالوا: صف لنا بيت المقدس، وقد أصاب النبي صلى الله عليه وسلم الهم لما سألوه ذلك؛ لأنه دخل بيت المقدس ليلاً، وخرج منه ليلاً وهم يسألونه عن دقائق الأمور في بيت المقدس، فوقف وجلس لحظة مغموماً، وانظروا إلى قدرة الله جل وعلا، والله الذي لا إله إلا هو من لم يعتقد في الله حق اعتقاده فقد خاب وخسر وتخبطه الشيطان في كل وادٍ، ولن يبالي الله جل وعلا إذا أهلكه في أي وادٍ من هذه الوديان, فالذي يعتقد في الله حق اعتقاده يعلم أن الله لن يضيع رسوله أبداً، وسينصره عليهم، فاغتم رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك عندما سألوه في دقائق الأمور، فجاءه جبريل وعلى جناحه بيت المقدس, وفيه كل ما فيه, فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فجاءني جبريل وعلى جناحه بيت المقدس أنظر إليه وأقص عليهم) وكان منهم من سافر إلى الشام ورأى بيت المقدس، فكان يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبر بدقائق الأمور الهندسية في هذا البيت، وهم يعلمون أن هذا هو الحق، وأعلى من ذلك وأرقى أنه قال: إن بعير فلان بن فلان في المكان الفلاني، وأما بعير فلان فتطلع عليكم الصبح، ثم ذهبوا فوجدوا ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم حقاً، فوقفوا أمام هذا الحق وهذا الصدق وهذه المعجزة، وأقروا بهذه الآية, فما كان ينتظر منهم إلا أن يؤمنوا؛ حيث إنهم أقروا إقراراً تاماً مطابقاً لما قال النبي صلى الله عليه وسلم، وأقروا بأن هذه آية، ولكن قام المغيرة فقال: إن هذا لسحر، فأخذوا يقولون هذه الكلمة، وقالوا: ساحر مبين حقدا وجحودا بمعجزات النبي صلى الله عليه وسلم وبدلائل النبوة.

فالمقصود أن الله جل وعلا ثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أخبرهم بذلك، فقاموا وقالوا: نؤلب عليه قريشاً فذهبوا إلى أبي بكر فوبخوا أبا بكر رضي الله عنه، وقالوا: يا أبا بكر أرأيت ماذا قال صاحبك؟ قال: ماذا يقول؟ قالوا: قال إنه قد أسري به إلى بيت المقدس ورأى بيت المقدس، فقال أبو بكر: إن كان قال هذا فقد صدق، ثم أتى بدليل ساطع على تصديقه لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني أصدقه في ما هو أبعد من ذلك، إني أصدقه في الخبر يأتيه من السماء، فقياس الأولى والقياس الجلي إن أصدقه فيما حدث له في الإسراء والمعراج، ولقب من يومها رضي الله عنه وأرضاه بالصديق.

<<  <  ج: ص:  >  >>