[ما ينبغي أن يتأدب به المخلوق مع كلام الخالق]
إذا قلنا: إن القرآن هو كلام الله جل وعلا، فيجب علينا أن نتحلى بآداب أمام كلام الله جل وعلا الذي هو صفة عظيمة من صفات الله جل في علاه وهي: أولاً: تعظيم القرآن وتوقيره، وهذا ينزل تحت التهديد الأكيد في قول الله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الأنعام:٩١]، وقول الله تعالى: {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} [نوح:١٣]، فتعظيم الله بتعظيم صفاته جل في علاه، وتعظيم القرآن وتوقيره داخل تحت هذا.
ومن تعظيم القرآن أنك تنتبه إذا تليت عليك آياته، ويكون قلبك وجلاً إذا سمعت آيات الله جل وعلا، وانتباهك هذا إما لأمر تأتمر به، وإما لنهي تزدجر عنه، كما قال ابن مسعود: إذا سمعتم الله جل وعلا يقول: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)) لا بد أن تنصتوا؛ لأنه إما أن يكون لأمر لا بد أن تأتمر به، أو لنهي لا بد أن تنتهي عنه، وهذا من تعظيم كلام الله جل وعلا، أما أن تسمع كلام الله لاهياً، وتمر على آيات الله جل وعلا وقلبك غافل فأنت متلاعب وعقابك عند الله شديد، وتقع تحت هذه الآية: {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا}.
فلا بد من تعظيم القرآن وتوقيره.
ثانياً: لا بد من الإكثار من تلاوة كلام الله؛ لأن في ذلك علامة على محبة الله جل وعلا؛ ولأن من أحب الله أحب صفاته، وهذا الذي أضهره وأعلنه ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه كما في البيهقي في شعب الإيمان بسند صحيح قال: قال ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه: من أراد أن يختبر حبه لله فعليه أن يعرض نفسه على كلامه، فإذا أحب كلام الله فقد أحب الله؛ لأنه من أحب صفة من صفات الله فقد أحب الذات المقدسة، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (اقرءوا القرآن ولكم بكل حرف حسنة وكل حسنة بعشر أمثالها ولا أقول: (ألم) حرف، ولكن أقول: ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف) فلا بد من الإكثار من قراءة القرآن.
وأيضاً قال النبي صلى الله عليه وسلم كما صح عنه: (ما عبد الله بخير مما خرج منه) وكان عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه كما في الشعب بسند صحيح يقول: لو طهرت قلوبنا ما شبعنا من كلام الله جل في علاه.
وأيضاً في نفس المصدر بسند صحيح عن ابن عمر أنه قال: تعلمنا الإيمان ثم تعلمنا القرآن، فنزل نور القرآن على نور الإيمان فكان نوراً على نور، فأصبحت الهداية تامة مكملة بهذا الكتاب، فمن الآداب التي يتحلى بها العبد الذي اعتقد أن ربه يتكلم وأن القرآن كلام الله أن يكثر من قراءة القرآن وله بكل حرف حسنة.
ثالثاً: إذا قرأ القرآن لا بد له من التدبر بعد التلاوة، فإن الإنسان لا يقرأ قراءة كقراءة الشعراء ولا يقرأ للتسلية، بل لا يقرأ القرآن إلا ليتدبر؛ لأن ما في القرآن إما أن يكون توحيداً وذكراً لصفات الله جل وعلا الثبوتية أو السلبية أو غيرها أو أمراً أو نهياً، أو كلاماً عن الثواب أو العقاب، فلا بد أن يمحص النظر ويتدبر في كتاب الله وقد حثه الله على ذلك بعد إنكار شديد على من لا يتدبر آيات الله، قال تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:٢٤]، وقال تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء:٨٢]، وجاء رجل إلى ابن مسعود فقال له: ختمت كذا وكذا في ليلة واحدة، قال: أهذاً كهذ الشعر؟ ينكر عليه، والصحابة رضوان الله عليهم كانوا يتدبرون الآية تلو الآية، ويمعنون النظر فيها فيتعلمون أحكامها، ثم يتعبدون لله بالتطبيق الحتمي في وقته؛ ولذلك ورد أن عمر بن الخطاب ختم البقرة في ست سنوات أو عشر، وعلل ذلك أنه ما حفظ آية إلا وتعلم معناها وحكمها، ثم طبق ذلك واقعاً أمام الناس، فلا بد من التدبر والتطبيق، ولذلك ورد بسند صحيح عن ابن عباس في تفسير قوله تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ} [البقرة:١٢١]، فقال: ((يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ)) أي: يقرءون حروفه ويطبقون حدوده.
فليس القرآن رسماً ولا زينة يوضع في السيارات ولا زينة في البيوت، بل إن القرآن يتلى ليطهر القلوب ولتطبق أحكامه بين الناس، فإن الخير كل الخير في أحكام الله جل وعلا.
وقد قال الشافعي في قول الله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل:٨٩]، قال: ما من نازلة إلا وفي كتاب الله حلها، علمها من علمها، وجهلها من جهلها.
رابعاً: ألا يهجر هذا القرآن، وهجران القرآن هجرانٌ لصفة من صفات الله جل وعلا، وزهدٌ في صفة من صفات الله جل في علاه، نعوذ بالله من الخذلان، وقد اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أقوام تركوا القرآن خلفهم ظهرياً، قال تعالى: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} [الفرقان:٣٠]، والعياذ بالله، وهجران القرآن كما قسمه العلماء ثلاثة أقسام: هجران تلاوته، وهجران التدبر مع السماع، وهجران العمل به.
أما هجران تلاوته فمعلوم أنه يكون بأن لا يقرأ الإنسان القرآن، بلْ لا يجعل له ثلاث آيات يختم بها ليلته ويقرأ القرآن.
وهجران تدبره أو سماعه، أو هجران العمل به، فكل منا يختبر نفسه، فإن كان يتلو ويتدبر ثم يعلم بعد ذلك ويطبق فلن يكون ممن اشتكى النبي صلى الله عليه وسلم منهم فليحمد الله، وإن كان منهم فليراجع نفسه وليستغفر الله جل وعلا، وعليه ألا يهجر هذا الكلام العظيم وهو كلام الله فإن خيري الدنيا والآخرة في كلام الله جل في علاه.
خامساً: ألا يمسه إلا وهو طاهر، وإن اختلف كثير من العلماء والمحدثين والفقهاء في مسألة مسِّ القرآن لغير طاهر، والصحيح الراجح: أنه لا يمسه إلا طاهر؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم تصريحاً، وهذا وإن ورد بأسانيد مختلف فيها، إلا أن بعضها يعضد بعضاً فيرتقي إلى الحسن، وتتلقاه الأمة بالقبول، فهذا الحديث حديث عظيم قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يمس القرآن إلا طاهر) وهذا عام في كل شيء، فيكون طاهراً معنوياً ويكون طاهراً حسياً، فلا يعارض بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن المؤمن لا ينجس) أي: أن المؤمن لا ينجس عقيدة؛ لأن عقيدته هي عقيدة التوحيد، ونقول: إن الرجل لا يأتي المرأة وهي حائض، ونقول: المحيض هو أذى، ومكان الحيض هو أذى لهذه النجاسة، فنحن نقول: لا يمس القرآن إلا طاهر، وهذا عام، ووجه عمومه النكرة في سياق النهي، فهي تفيد العموم، فالطهارة هنا طهارة عمومية، وطهارة بدنية وطهارة معنوية، وأقصد بالطهارة المعنوية أنه لا يمس القرآن كافر حتى ولو اغتسل؛ لأنه نجس نجاسة معنوية لا حسية، فأقول الطهارة هنا على العموم، ومن أراد أن يخصص تخصيصاً للكافر فقط فليأتنا بالدليل، ومن قال: إن هذا الحديث: (لا يمس القرآن إلا طاهر) له تأويلات، الوجه الأول: أنها الطهارة المعنوية لا الحسية، والوجه الثاني: أين يقصد بها الملائكة، فإننا نقول: أين الأدلة على ما تقولونه؟ فإنكم لو أردتم أن تؤصلوا تأصيلاً علمياً الأصل عدم المنع، إلا أن يأتي دليل ينقلنا عن الأصل، وقد جاءنا الدليل، قال: (لا يمس القرآن إلا طاهر) على العموم، فإن أردت أن تخصص فائتنا بالدليل، وهي قاعدة عند العلماء، فالعموم يبقى على عمومه إلا أن يأتي مخصص يخصصه، فلا يجوز لرجل غير متوضئ أن يمس القرآن حتى يتوضأ، وليس معنى ذلك أن نمنعه من قراءة القرآن وهو غير متوضئ، بل له ذلك، فهناك فرق بين المس والقراءة، فله أن يقرأ وهو غير متوضئ، وهذا خلاف الأول، وقد صح عن عائشة رضي الله عنها وأرضاها أنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ القرآن على كل أحواله)، الظاهر جداً بأنه يكون متوضئاً وغير متوضئ، أما مس القرآن فقد جاء النص الصريح بالمنع لغير الطاهر، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يمس القرآن إلا طاهر)، فله أن يقرأ من حفظه دون أن يمس القرآن، إلا في الحالات التي يخشى على نفسه أن يضيع منه القرآن، وهي حالات مستثناة، والأمور المستثناة لا يقاس عليها غيرها.
سادساً: من الآداب التي لا بد أن يتأدب بها هذا العبد الذي علم أن القرآن هو كلام الله ألا يأكل به، أيأكل بصفة من صفات الله جل وعلا؟! أيفعل ذلك تجارة في الدنيا حتى يأتي الآخرة خاسئاً ليس له في الآخرة خلاق؟! فإن القرآن كلام الله لا يجوز بيعه، ولا يجوز التجارة به، ولا أقول: لا يجوز بيع المصحف على الخلاف الفقهي المشهور، بل يجوز بيع القرآن بسعر التكلفة، وأشرطة القرآن الأصح فيها أنها لا تباع إلا بسعر التكلفة، هذا هو الصحيح الراجح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اقرءوا القرآن ولا تغلوا فيه ولا تجفو عنه) أي: لا غلو ولا جفو، (ولا تأكلوا به)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اقرءوا القرآن فإنه سيأتي أقوام يقرءون القرآن يتعجلونه ولا يتأجلونه) يعني: يتعجلون أجرته، ولا يتأجلون الأجر من الله جل في علاه.
وفي رواية أخرى قال: (يسألون الناس به) يذهبون إلى المساجد والمجتمعات ويقرءون القرآن بثمن معين، فهذا بيع والعياذ بالله وتجارة تبور؛ لأنه بيع وأكل بالقرآن، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يجوز الأكل بالقرآن، فمن تأدب مع الله واعتقد أن القرآن هو كلام الله وأن الله تكلم به، فإنه سيتأدب أدباً جماً عظيماً مع كلام الله وكتاب الله جل في علاه.