للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[شفاعة الصديقين والشهداء يوم القيامة]

ومن أصحاب هذه المنزلة: الصديقون، فهذه المرتبة تلي مراتب الأنبياء, وأيضاً الشهداء, وأيضاً الأولياء, فمراتب الناس بعد الأنبياء والمرسلين: الصديقون، ثم بعد ذلك الشهداء، ثم بعد ذلك أولياء الله الصالحون.

والصديقية تجيء عن محض التصديق، أي: أن يصدق ما أخبر به من قبل الله جل وعلا ورسوله صلى الله عليه وسلم, فلا يسمى صديقاً ولا يرتقي منبر الصديقية إلا إذا صدق تصديقاً محضاً بكل ما أتاه من الله جل وعلا ومن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولسان حاله يقول: آمنت بالله وبما جاء عن الله على مراد الله وآمنت برسول الله وبما جاء عن رسول على مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم, وأروع الأمثلة على تجسيد الصديقية أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه, فقد جسد لنا معنى الصديقية ظاهراً وباطناً.

فأول هذه المراتب: أن يصدق بكل ما أُخبر به من قبل الله وقبل رسوله صلى الله عليه وسلم.

والمرتبة الثانية: أن يصدق قوله فعله, والمرتبة الثالثة: أن يصدق ظاهره باطنه, والرابعة والخامسة: التصديق بموعود الله جل في علاه سواءً في الدنيا أو في الآخرة.

أولاً: التصديق بما أخبر الله به وبما أخبر به رسوله، وهذه -كما قلت- ضرب فيها أبو بكر أروع الأمثلة مبيناً لنا مكانة الصديقية, فلما كانت ليلة الإسراء ظن كفار قريش أنهم قد ظفروا بما يكذبونه به، فظنوا أنهم قد ظفروا بما يريدون حتى يجعلوا أبا بكر رضي الله عنه وأرضاه يرتد عما هو فيه.

فذهبوا إلى أبي بكر وقالوا: يا أبا بكر! أما رأيت ما زعم صاحبك أو ما يقول صاحبك؟! قال: وما يقول؟ قالوا: يقول: إنه كان البارحة في بيت المقدس ثم رجع إلى مكة في ليلة واحدة! فقال أبو بكر -يبين لنا معنى الصديقية- أقال ذلك؟ قالوا: نعم قال ذلك, وهم يظنون أن أبا بكر سيقول: إذاً لا أتبعه، فلا يعقل أن يذهب رجل إلى بيت المقدس -وهو تضرب إليه أكباد الإبل في شهور- ويرجع في ليلة واحدة، فقال أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه: إن كان قال ذلك فقد صدق، فلما قال ذلك دهشوا، فبين لهم الدليل القاطع فيما هو أجلى من ذلك, فقال: والله! إني لأصدقه فيما هو أبعد من ذلك, أصدقه في خبر السماء.

أي: فهذا أعظم من أن أصدقه في ذهابه إلى بيت المقدس ورجوعه في ليلة.

وضرب لنا أيضاً أروع الأمثلة في الصديقية رضي الله عنه وأرضاه في الحديبية، وهذه تبين لك مرتبة الصديقية من مرتبة الإلهام, فالفارق بينهما مفاوز، فمرتبة الصديقية أرقى من مرتبة الإلهام, والنبي صلى الله عليه وسلم يقول في عمر: (لو كان في الأمة محدَّث أو مُلهَم لكان عمر) , وهذا الملهَم والمحدَّث الذي تتحدث الملائكة على لسانه بالحق ينزل مرتبة عن مرتبة الصديقية الذي صاحبها يجري الحق على لسانه وقلبه، ولا يحتاج إلى ملك يتكلم على لسانه, فانظروا كيف يبين لنا أبو بكر معنى الصديقية ومرتبتها العليا في صلح الحديبية، فلم يستطع عمر بن الخطاب رضي الله عنه وكذلك كثير من المسلمين تقبل شروط الصلح، وقالوا: نحن في قوة ومنعة فكيف نعطي الدانية في ديننا؟! فقال عمر: يا رسول الله! ألسنا على الحق؟ قال: بلى, قال: أليسوا على الباطل؟ قال: بلى, قال: فلِمَ نعطي الدنية في ديننا؟! فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم (إني رسول الله ولن يضيعني الله)، وهنا يأتيك شاهد الصديقية، فيذهب عمر إلى أبي بكر -لأن أبا بكر أقرب الناس إلى رسول ويمكن أن يؤثر على رسول الله- فقال: يا أبا بكر! ألسنا على الحق؟ قال: بلى, قال أليسوا على الباطل؟ قال بلى, قال: فلِمَ نعطي الدنية في ديننا؟! فانظروا إلى الصديقية فلا يفرق بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أبي بكر إلا مرتبة النبوة , ولذلك ورد في بعض الآثار أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لو لم تنزل الرسالة عليّ لنزلت على أبي بكر) وينظر في أسانيدها، بل صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لو كان هناك نبي بعدي لكان عمر)، لكن المرتبة الأولى هي مرتبة أبي بكر، وأبو بكر كان يوازي النبي صلى الله عليه وسلم في الخلق، فقال له أبو بكر إلزم غرزه؛ فإنه رسول الله ولن يضيعه الله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم.

فقالوا: إن بين عمر وبين أبي بكر مفاوز فالصديقية أرقى ما تكون.

وقد ضرب لنا أبو بكر لنا أروع أمثلتها عند موت النبي صلى الله عليه وسلم, فـ عمر رضي الله عنه وأرضاه أيضاً لم يستطع أن يصبر على ذلك، فقال: من قال: إن محمداً قد مات لأعلونّه بالسيف, فقام أبو بكر وقال: أسكت، فلم يسكت عمر وقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم ذهب إلى ربه، كما ذهب موسى إلى ربه وسيرجع ليقطع أيدي المنافقين وأرجلهم, ثم قال أبو بكر: أيها الناس! من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات, ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت.

فالصديقية مرتبة أرقى ما تكون وهي تصديق بموعود الله جل في علاه، وتصديق بنصر الله، والقول فيها يصدق الفعل، والظاهر يصدق الباطن, وكان أبو بكر يعلم أن الله جل وعلا جنّد جنوداً من الملائكة كل صباح ومساء يقولون: اللهم! أعط منفقاً خلفاً، وأعط ممسكاً تلفاً, فكان يصدق بها أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه، وكانت تجري منه مجرى الدم رضي الله عنه وأرضاه, فلما استنفرهم رسول صلى الله عليه وسلم للنفقة قال عمر: اليوم أسبق أبا بكر رضي الله عنه وأرضاه, فأنفق نصف ماله، أو شطر ماله فسأله النبي صلى الله عليه وسلم: ما تركت لأهلك؟ قال تركت لهم مثله، فمدحه وأثنى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم, ثم جاء الصديق -الذي يصدق ويستيقن بالله جل في علاه- بماله كله وما أضرب هذا المثال الرائع لنتسلى، فالضياع في دنيانا اليوم والله الذي لا إله إلا هو! هو نفس الضياع الذي حصل لليهود, فقد ضاع اليهود لعدم يقينهم بالله تعالى، ونتيجة لضعف إيمانهم لم يثقوا بربهم جل في علاه، فلما أنزل الله عليهم المن والسلوى وهو طعام شهي لا يمكن أن يستعيضوا عنه بشيء قالوا: {لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ} [البقرة:٦١] فهم لا يثقون بربهم جل في علاه, وهذا الضياع الذي نحن فيه سببه أننا لا نثق بربنا جل في علاه بحال من الأحوال, فأنت تخشى من الغرب والشرق، وتخشى من اليمين واليسار، وتخشى من فوق ومن تحت؛ لأنك لا تثق في ربك جل في علاه, فهذا أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه, يقول: والله! لو جرت الكلاب أمهات المؤمنين لأنفذن جيش أسامة وما ذاك إلا لأنه يثق في الله، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جند أحداً فالنصر معه, وسترى ذلك من أبي بكر ويقينه في الله، اللهم ارزقنا ذلك يا رب العالمين! وأمتْنا عليه, فحلاوة الإيمان هذه لم يصل إليها المرء إلا بذلك, فـ أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه صدق بما أنزل الله فجاء للنبي صلى الله عليه وسلم بكل ماله، فقال له: (يا أبا بكر ما تركت لأهلك؟ قال: تركت لهم الله ورسوله) فسطر لنا سطراً علمه من كتاب الله لنعمل به, قال الله تعالى: {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} [الكهف:٨٢]، فمن خشي على أولاده فعليه بالصلاح والتقى واليقين بالله جل في علاه، {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} [النساء:٩]، فإذا قالوا ذلك واتقوا الله فإن الله كفيل بأولادهم, وكما تقول في السفر: وأنت الخليفة في الأهل.

فكان أبو بكر يستيقن في موعود الله جل في علاه.

وفي غزوة بدر كان النبي صلى الله عليه وسلم يتضرع ويتذلل ويخضع ويبكي لله جل في علاه, ويقول: اللهم! إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد بعد اليوم، ومع ذلك فالنبي صلى الله عليه وسلم يبكي ويتضرع مرة ثانية: اللهم! أنجز لي وعدك الذي وعدت، وهذه سنة نعمل بها، ولنعلم أننا لا يمكن أن نخرج من الضوائق إلا أن نتذلل لله جل في علاه, فتغلق كل الأبواب إلا ويبقى باب واحد مفتوح فيه والنصر والرفعة والنجاة, وهو باب الذل لله جل في علاه, فتذلل رسول الله صلى الله عليه وسلم، والقاعدة عند العلماء: أن أعز أهل الأرض هو أذل أهل الأرض لله جل في علاه, فكان النبي صلى الله عليه وسلم يضرب لنا أروع الأمثلة في الذل والخضوع والمسكنة لله جل في علاه: (اللهم! أنجز لي وعدك الذي وعدت, اللهم! إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد بعد اليوم) , فيقول أبو بكر المطمئن القلب بما طمأنه به رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والله يا رسول الله! إن الله سينجز لك ما وعدك, فما لبث إلا أن قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبشر يا أبا بكر! هذا جبريل على فرسه) , فأنزل الله الملائكة نصراً لهؤلاء المؤمنين.

إنها الصديقية! اللهم ارزقنا ذلك يا ربنا! ولذلك كان عمر الفاروق فارس الميدان الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الحق لمع عمر)، وقال: (لو سلكت فجاً لسلك الشيطان فجاً غير فجك يا عمر)، وعمر نفسه قال: النبوة ليست لنا، والصديقية من يرتقي إليها, فكان يقول

<<  <  ج: ص:  >  >>