للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[أقسام الرؤية لله تعالى]

وإذا اعتقدنا أن الله يرانا فإن الرؤية رؤيتان: رؤية عامة، ورؤية خاصة.

فأما الرؤية العامة: فهي رؤية الإحاطة، فقد أحاط الله بكل شيء بصراً، فلا يخفى على الله شيء دق وخفي، أو جل وعظم، فإن الله جل وعلا أحاط بصره بكل شيء، فيرى النملة السوداء، على الصخرة الصماء، في الليلة الظلماء، ويرى عروقها جل في علاه، فلا تواري عنه سماءٌ سماءً، ولا أرض أرضاً، ولا جبل ما في وعره، ولا بحر ما في قعره؛ فإنه أحاط بكل شيء رؤية.

وهذه الرؤية تعم المؤمن وتعم الكافر، بل تعم كل الخلائق، فالجن الذين أخفوا على البشر فإن الله يراهم، والملَك الذي لا تراه فإن الله يراه، ويرى عروق النملة الصغيرة الدقيقة، ويرى كل ما خفي ودق، فهذه الرؤية العامة التي عمت الكافر والمؤمن، وعمت كل الخلائق تستلزم التهديد والوعيد لأهل الكفر والظلمة والفسقة والفجرة، الذين يتجرءون على الله جل وعلا، ويتجرءون على عباد الله، ويتعدون حدود الله، فإن الله ببصره يراهم، فإذا رآهم الله جل وعلا وأمر الملائكة أن تكتب ما يفعلون جازاهم ونكل بهم أشد النكال في الدنيا قبل الآخرة، وإليك نبأ ذلك من كتابه جل وعلا، قال الله محذراً ومنذراً أهل الكفر والفسق والظلم والفجرة الكفرة، قال الله جل وعلا: {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} [العلق:١٤]، ألم يعلم هذا الكافر الفاسق الفاجر الذي يتعدى حدود الله بأن الله يراه، ولازم رؤية الله له أنه سيعذبه وينكل به أشد النكال في الدنيا قبل الآخرة، وألم يعلم الظالم عندما يظلم أن الله يراه وهو يظلم عبداً من عباده، أو ولياً من أوليائه، والله جل وعلا يقول كما في الحديث القدسي: (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب).

وقال الله جل وعلا أيضاً في سياق مثل هذه الآية: {أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ} [البلد:٧]، وإن لم يره أحد من البشر أو من الجن أو من الملائكة فلم يكتبوا فإن رب السموات والأرض يراه، ومجازيه على ما يفعل.

فهذه هي رؤية الإحاطة، فأنت إذا اعتقدت اعتقاداً جازماً بأن الله يرى كل شيء، ومحيط بكل شيء بصراً ورؤية لم تحزن على ما يفعل الكافر بالمؤمن؛ لأن الله إن لم ينصر أخاك المؤمن على هذا الكافر في الدنيا فإن الله جل وعلا سينكل بهذا الكافر نكالاً شديداً في الآخرة، فأنت تعتقد أن الله يرى فعل هذا الكافر في هذا المؤمن، والله قادر عليه، لكنه يرجئه لحكمة عنده خفية لا نعلمها، وإن بين لنا هذا الحكمة فنحن نسمع ونطيع.

فهذه الرؤية -رؤية الإحاطة أو الرؤية العامة- إذا اعتقدها المرء اعتقاداً جازماً أراح واستراح.

وأما الرؤية الخاصة: فهي خاصة بالمؤمنين، وهي رؤية تثبيت توفيق وحراسة وعناية ونصرة وتأييد، وهذه الرؤية خاصة بالمؤمنين فلا يدخل فيها الكافر بحال من الأحوال، وهذه الرؤية هي التي ذكرها الله جل وعلا مسلياً نبيه صلى الله عليه وسلم، فقال: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور:٤٨] أي: اصبر على أهل الكفر في مكة وهم يتجبرون ويتجاسرون ويتجرءون عليك، وهم يكيدون لك كيداً، وهم يمكرون بك مكراً، وكأن الفاء في قوله: (فإنك) تدل وتشعر بالعلّيّة، لِمَ؟ ((فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا))، فهذا تسلية له، فاصبر فإن الله يراك، ويرى كيد الكائدين، ويرى كفر الكافرين، ويرى تجبر الجبابرة الذين يمكرون بك ويكيدون لك، فاصبر على ذلك لَمِ؟ لأن الله يراك ويراهم، والله إذا رآك ورآهم فإنه قادر عليك وقادر عليهم، فالله سيعصمك منهم، {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:٦٧]، فهذه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم.

وقد ظهر ذلك جلياً، فقد رأى الله جل وعلا أبا جهل ومن معه من صناديد قريش وهم يمكرون بالنبي صلى الله عليه وسلم لقتله، فحدث بسبب هذه الرؤيا تسديد وتأييد وتوبيخ، فلما اجتمع الفتية ليقتلوا النبي صلى الله عليه وسلم خرج عليهم النبي صلى الله عليه وسلم وهم ينظرون إليه، فجعل الله من بين أيديهم سداً ومن خلفهم سداً، فهذا لازم من لوازم رؤية التسديد والتوفيق، فالله رآهم يفعلون ذلك فسدد ونصر النبي صلى الله عليه وسلم، ووفقه للخروج من هذا المأزق، {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور:٤٨].

ونوح عليه السلام أيضاً قال الله تعالى تسلية له: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا} [هود:٣٧]، فالله يراه وهو يصنع الفلك وهم يمرون عليه ويسخرون منه، وهو يسخر منهم، والله يرى هذه المجادلة، وبعدما رأى الله جل وعلا ذلك سلى نبيه أنه سيحفظه وسيسدده وسينقذه، ثم جاء فصل الخطاب الذي يؤكد لنا ذلك، ففجر الله تعالى الأرض عيوناً، وأمطرت السماء ماءها، فاجتمع ماء السماء مع ماء الأرض والعيون فأغرق كل شيء إلا سفينة نوح، فهذه من رعاية الله جل وعلا، وهي من لوازم رؤيته لنوح، قال: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر:١٤]، فأنقذ الله نوحاً ومن معه في هذه السفينة التي كانت تسير في هذه الأمواج المتلاطمة الشديدة، فسدد الله ووفق ورعى نوحاً ومن معه رعاية منه جل وعلا.

وأيضاً تسديده وتوفيقه ونصره لموسى عليه السلام وهارون ضد فرعون، فإن موسى خشي أن يذهب إلى فرعون: {قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى} [طه:٤٥]، فقال الله تعالى مبيناً لهما رؤية الإحاطة والتسديد والتوفيق والنصرة: {قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:٤٦]، قال ابن عباس: أرى ما يكيدون وما يدور بينكم وبينه، وأحفظكم من كل سوء يدور بكم، أو كما قال رضي الله عنه وأرضاه.

فقال الله جل وعلا لمن يفقه ويعقل عنه هذا الكلام: ((إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى))، وكأن موسى فهم من ذلك وفقه عن الله جل وعلا أنه إذا رآك خاصة وأنت مؤمن تنافح عن دينه فإنه سينصرك وسيوفقك وسيسددك، وهذا الذي حدث فقد أنقذ الله جل وعلا موسى ومن معه من بني إسرائيل من يدي هذا الكافر فرعون عليه من الله ما يستحق.

إذاً: فالرؤية الثانية هي رؤية التوفيق والتسديد والنصرة، وهذه خاصة بالمؤمنين.

<<  <  ج: ص:  >  >>