للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[مراتب القدر]

الإيمان بالقدر يستقيم عندما تؤمن بأربع مراتب: علم فكتابة فإرادة فخلق، فتؤمن بعلم الله جل وعلا، وهو يشمل كل شيء، وأن الله قد أحاط بكل شيء علماً، فهو يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف سيكون، وهكذا كما قال الله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا} [الأنعام:٢٧] أي: الكفار، {إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام:٢٧ - ٢٨].

المرتبة الثانية: الكتابة، فكل شيء مكتوب {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ * وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ} [القمر:٥٢ - ٥٣] يعني: في اللوح المحفوظ.

والكتابة أربع كتابات: كتابة أزلية، كتابة عمرية، كتابة عامية، كتابة يومية.

فالكتابة الأزلية في اللوح المحفوظ كانت قبل أن يخلق الله الخلق بخمسين ألف سنة، فكتب كل شيء، كتب هذا المجلس الذي سنجلس فيه، وكتب ما نتكلم به، وكتب حركاتنا وسكناتنا ونومنا وقيامنا، فكل ذلك مكتوب قبل أن يخلق الله السموات والأرض بخمسين ألف سنة.

والكتابة الثانية: كتابة عمرية، أي: في عمرك، وهذه الكتابة هي التي في صحف الملائكة، فعندما يأتي الملك بعد مائة وعشرين يوماً يقول: أي رب! أذكر أم أنثى؟ أي رب! الرزق؟ أي رب! الأجل؟ أي رب! أشقي أم سعيد؟ فيكتب.

كتابة عامية: وهي في ليلة القدر، {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدخان:٤]، قال ابن عباس: يكتب الحاج والمعتمر، ويكتب الميت والحي، والذي يرزق، والذي يولد له، والذي يتزوج إلى آخره.

الرابعة: كتابة يومية، فالملائكة الذين يتعاقبون ويتقابلون في العصر والفجر يكتبون ما يجري في اليوم.

وكل هذه الكتابات التي في صحف الملائكة يمكن أن يبدلها الله جل وعلا إلا التي كتبت في اللوح المحفوظ، فالكتابة العمرية والعامية واليومية يمكن أن تبدل، ويدل على ذلك عمل عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، فقد كان يطوف بالكعبة ويقول: اللهم إن كنت قد كتبتني شقياً فامحها واكتبني عندك سعيداً، ثم يتلو {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد:٣٩].

إذاً: الذي يتبدل ويتغير ويمحى هو ما في صحف الملائكة، وأما اللوح المحفوظ فلا يتبدل فيه شيء بحال من الأحوال، وفهم هذا يخرج المرء من إشكال عظيم وهو: إذا كان القدر نازلاً لا محالة فكيف يذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن القدر والدعاء يعتلجان، وأن القوي منهما يدفع الآخر، فكيف يكون ذلك والقدر قد قدر وانتهى الأمر؟

و

الجواب

أن في اللوح المحفوظ أن هنا الرجل سيدعو الله والله يقبل دعاءه فيرد القدر بهذا الدعاء، لكن ليس هذا مكتوباً في صحف الملائكة، فالملائكة القدر الذي في صحفهم سينزل عليه ولكنه يأتي الدعاء فيرفعه، فيمحى من صحف الملائكة، والله تعالى أعلى وأعلم.

المرتبة الثالثة: الإرادة، فما من شيء في هذا الكون إلا وهو بإرادة الله جل وعلا، {إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} [المائدة:١] سبحانه وتعالى، وإرادة الله إرادتان: إرادة كونية وإرادة شرعية.

فالإرادة الكونية: هي المشيئة، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وهذه ضابطها أنها تقع لا محالة، فلا مرد لها، وتكون فيما يحبه الله وما لا يحبه الله، فكفر أبي جهل أراده الله كوناً، وكفر أبي لهب أراده الله كوناً، هو لا يحبه لكن أراده كوناً لحكمة عنده، قال الله تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ} [الأنعام:١٢٥] يعني: يريد إرادة كونية، {وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام:١٢٥]، {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:٥٦].

والإرادة الثانية: الإرادة الشرعية، وهي المحبة، وهذه فيما يحبه الله فقط، وقد تقع وقد لا تقع، وهذه خاصة بالإيمان والتيسير للطاعات، {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:١٨٥]، {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء:٢٣] فقد تقع وقد لا تقع، فكثير من الناس أشركوا بالله جل وعلا وكفروا به، فالإرادة الشرعية هي المحبة.

وقد يكون الشيء مراداً شرعاً وكوناً كإيمان أبي بكر.

وأما غير المراد كوناً ولا شرعاً فمثل كفر المؤمن، فالله لا يرضاه شرعاً وأيضاً لم يقدره كوناً.

المرتبة الرابعة: الخلق، والخلق المطلق لله جل وعلا، {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر:٦٢]، ومن الخلق أن الله خلق أفعال العباد، خلق العبد وخلق أفعاله، قال الله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:٩٦]، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله خلق كل صانع وصنعته).