وحديث الإسراء والمعراج يرويه أنس بالمباشرة أو بالواسطة، فقد روى عن مالك بن صعصعة وغيره، وروى بنفسه لسماعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمدار كل حديث الإسراء على أنس، فلندع أنس رضي الله عنه وأرضاه يحدثنا عن هذه الرحلة المباركة الميمونة.
يقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدثنا فقال: (كنت نائماً في الحصير فأتاني آت -هو جبريل عليه السلام- فشق صدري) , أي: شق صدر الرسول صلى الله عليه وسلم من تحت النحر إلى السرة, وهذه معجزة من المعجزات الخاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم، وقد رفضها أهل العقول الخربة من المعتزلة وأفراخها الذين يهرفون بما لا يعرفون، ويردون أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم بعقولهم الخربة، مع أنهم في هذه العصور التي نراها أسوأ ما تكون على أهل الإسلام عندما يرون الأطباء يفتحون القلوب والصدور والعمليات الجراحية المختلفة يصدقونها ويبهرون بحسن صناعة هذا الطبيب، فما بالكم بالله جل وعلا الذي إذا قال للشيء كن فيكون! والله الذي لا إله إلا هو من رد هذا الحديث فهو لم يعتقد في الله حق اعتقاده، ولم يعتقد في رسول الله صلى الله عليه وسلم حق الاعتقاد، ولم يتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم حق اتباعه، فإنه لو اعتقد في الله حق الاعتقاد، وعلم أن الله على كل شيء قدير، وعلم أن الله خلق ملكاً له ستمائة جناح من قدرته وقوته، وأن الله جل وعلا أعطاه قوة حمل قرية بأسرها، وأن يجعل عاليها سافلها، لما رد هذا الحديث.
إن جبريل عليه السلام هو الذي أجرى العملية الجراحية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ذلك الملك الذي ضرب بجناحه فقط قرية لوط فجعلها كثيباً مهيلاً، جبريل عليه السلام الذي عندما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم رعب منه وقال: زملوني زملوني, جبريل الذي قال في وصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم:(رأيت جبريل يجلس على كرسيه في السماء ورجلاه في الأرض)، جبريل عليه السلام الذي له ستمائة جناح؛ ولذلك قيل لبعضهم الذين يؤولون صفات الله: صف لي ثلاثة أجنحة فقط وأنا أكفيك الباقي ما استطعت.
فجبريل عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام هو الذي أجرى العملية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فشق صدره، ثم أخرج قلبه وغسله بماء زمزم، ثم بعد ذلك غسل صدره وحشاهُ حكمة وإيماناً وعلماً.
فمن قال: إن الحكمة والإيمان والعلم معنويات، فنقول: كيف يحشى الصدر بهذه المعنويات؟ فالله على كل شيء قدير، أما سمعتم وعلمتم بأن الموت سيقوم متمثلاً أمام الناس، وينادى: يا أهل الجنة! خلود بلا موت، ويا أهل النار! خلود بلا موت، أو ما علمتم أن الله جل وعلا يجعل الأعمال هذه تتكلم، وهذا الفخذ يتكلم، واليد تتكلم وتشهد على العبد؟ فإن الله على كل شيء قدير, فقد ملأ صدر رسول الله صلى الله عليه وسلم حكمة وإيماناً.
ثم بعد ذلك أغلق جبريل صدره وأرجع ورد كل شيء إلى مكانه ثم أتي الرسول صلى الله عليه وسلم بالبراق، وهي دابة لونها أبيض فوق الحمار ودون البغلة، قال أنس في وصفها:(يضع حافره في نهاية مد البصر، فركبه رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وفي بعض الأحاديث الضعيفة: أنه لما جاء الرسول صلى الله عليه وسلم يركب البغلة أو البراق استصعب عليه، فقال له جبريل: والله ما ركب عليك أكرم على الله من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصدق وحق له أن يقول ذلك، بل إن نبينا صلى الله عليه وسلم أفضل من جبريل كما سنبين من هذه القصة، فركبه ثم بعد ذلك ذهب به إلى بيت المقدس بأبي هو وأمي، فعلق الخطام على باب المسجد، ثم دخل وصلى ركعتين, وفي بعض الروايات: أن الله جمع له الأنبياء أجمعين، فأمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فانقادوا له وسلموا له الريادة والسيادة والقيادة، وما كان لهم إلا أن ينقادوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ويعلموا أن هذا إيذان وإشارة من الله أنه إذا أم الرسل والأنبياء فإن دينه ناسخ لكل الأديان التي قبله، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(والذي نفسي بيده لا يسمع بي من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لم يؤمن بالذي جئت به إلا كان من أصحاب النار) فرسول الله صلى الله عليه وسلم سيدهم وإمامهم وقدوتهم، فصلى بهم جميعاً، ثم بعد ذلك كانت الرحلة الميمونة المباركة , فركب البراق، فصعد إلى السماء حتى بلغ السماء الدنيا، فقرع جبريل الباب عليه الصلاة والسلام، فقيل: من؟ قال: جبريل، فقالوا: من معك؟ قال: محمد، قالوا: أو أرسل إليه؟ قال: نعم، فقالوا: مرحباً بالنبي الصالح، ففتح له فدخل جبريل ودخل معه محمد صلى الله عليه وسلم، فرأى آدم عليه السلام ورآه آدم، فقال آدم: مرحباً بالابن الصالح والنبي الصالح، ثم صعد به إلى السماء الثانية، فوجد فيها عيسى ويحيى عليهما السلام، فرحبا به وقالا: مرحباً بالنبي الصالح والأخ الصالح، ثم صعد به إلى السماء الثالثة، فوجد فيها يوسف عليه الصلاة والسلام وقد أوتي الشطر الثاني من الجمال، فقال: مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح، ثم صعد إلى السماء الرابعة فوجد إدريس، فتلا قول الله تبارك وتعالى {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا}[مريم:٥٧]، ثم بعد ذلك صعد إلى السماء الخامسة فوجد فيها هارون، فرحب به وقال: مرحباً بالنبي الصالح والأخ الصالح، ثم ارتقى إلى السماء السادسة فوجد فيها موسى عليه الصلاة والسلام، فقال: مرحباً بالنبي الصالح والأخ الصالح، فلما صعد محمد صلى الله عليه وسلم بكى موسى؛ لأن غلاماً سيدخل من أمته أكثر مما يدخل من أمتي الجنة -فنسأل الله تبارك وتعالى أن يجعلنا جميعا من أهل الجنة -ثم صعد إلى السابعة فوجد إبراهيم عليه الصلاة والسلام وحوله أطفال المشركين وأطفال المسلمين، قال: مرحباً بالنبي الصالح والابن الصالح، ثم بعد ذلك صعد محمد صلى الله عليه وسلم، إلى سدرة المنتهى لكن جبريل لم يصعد مع رسول الله، وهذا دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم أرقى منزلة عند الله من جبريل، وأكرم على الله من جبريل، وحق لنا أن نقول ذلك، فإن سيد الخلق أجمعين هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أكرم من جبريل عليه الصلاة وأزكى السلام، فصعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمه الله من وراء حجاب؛ لأن الله يقول:{وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ}[الشورى:٥١]، فكلمه من وراء حجاب وفرض عليه خمسين صلاة، فنزل يتردد بين الله جل وعلا وبين موسى، فقد كان موسى يقول: أمتك لا تستطيع ذلك، وهو يراجع ربه حتى جعلها الله خمس صلوات في اليوم والليلة، وهي بأجر خمسين صلاة بفضله ومنه وكرمه ورحمته على عباده.