للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[الجواب على القائلين بأن الكافرين يرون ربهم يوم القيامة]

ما استدل به القائلون بأن الكافرين يرون الله يوم القيامة يجاب عليه بعدة أجوبة: أولاً: احتجاجهم بقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ} [الانشقاق:٦]، وقولهم بأن اللقاء يستلزم الرؤية، يجاب عليه: بأن اللقاء لا يستلزم الرؤية، فإن اللقاء لقاءان: لقاء بسلام، ولقاء بغير سلام، فأما اللقاء بسلام فإنه -كما هو معلوم- أن السلام تحية أهل الإسلام، وقد قال الله جل وعلا لآدم: (فهذه تحيتك وتحية أمتك من بعدك)، فكلمة السلام عليكم معناها لك منا الأمان والسلامة من كل شيء، كما تعني الدعاء بالسلامة من كل نقص ومن كل شر يسوءك في الدنيا والآخرة، فاللقاء بسلام فيه الأمان واللذة والسرور والإكرام.

والقاء الثاني: ليس بسلام، وهذا لا يستلزم النظر، وأما اللقاء الأول الذي يكون بسلام فيستلزم المعاينة والإبصار؛ لما فيه من الأمان والإكرام والسلام، ودليل ذلك قول الله تعالى عن المؤمنين عندما يدخلون الجنة: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ} [الأحزاب:٤٤].

إذاً: يلقونه فيسلم عليهم، وهذا لقاء بسلام، وهو الذي فيه رؤية وجه الله جل في علاه، وهذا الذي يستلزم المعاينة والإبصار واللذة والسرور {فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر:٥٤ - ٥٥].

اللقاء الثاني: لقاء بغير سلام، وهذا لقاء توبيخ لا يستلزم المعاينة ولا الإبصار، فهو لقاء المحاسبة، فلا يكون بينهم وبين الله ترجمان، وفيه يوبخهم الله جل وعلا ويقول لأحدهم: ألم أنعم عليك؟ فيقر بكل ذلك ولا يجحد شيئاً حتى إن الله يختم على فيه ويقول: يكفيك شاهد من نفسك، فتنطق اليد، وينطق الفخذ، وينطق كل شيء بجسده، ثم يلقى في نار جهنم مدحوراً موبخاً من قبل الله جل في علاه.

إذاً: فاللقاء الذي يكون بغير سلام لا يستلزم المعاينة والإبصار؛ للحجاب الذي بينهم وبين الله، فلا يرونه.

وأما استدلالهم بأن أهل الموقف ينظرون إليه وينظر إليهم فالحديث فيه ضعف، لكن ابن القيم رحمه الله يرجح تصحيحه، ولم يقل المعنى صحيح، لكن قال: ينظر لأهل الموقف، وينظرون إليه.

والرد على استدلالهم بهذا الحديث من وجهين: الوجه الأول: أن الذين ينظرون هم المؤمنون، فالنظر خاص بهم؛ لأن الله أخبرنا في كتابه الكريم أن الكافرين يبعثون يوم القيامة على وجوههم عمياً وصماً وبكماً قال تعالى: {قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى} [طه:١٢٥ - ١٢٦]، فالكافر يحشر يوم القيامة أعمى، ولا نظر للأعمى.

الوجه الثاني: ينظرون ويحجبهم الله عن رؤيته، وهذا ظاهر.

وأوضح الأدلة في الإجابة عليهم هو قول الله تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:١٥]، وقد يقال: إذا لم ير الكافرون ربهم فكيف يراه المنافقون؟

و

الجواب

أن رؤية المنافقين من تمام المكر والمخادعة، {جَزَاءً وِفَاقًا} [النبأ:٢٦] وأجراً طباقاً، بل إن هذا يستلزم حسرة وألماً على المنافقين، فيكون عقابهم أشد من عقاب الكافرين، فعندما يرون الله يقع في قلوبهم أنهم مع المؤمنين، وأنهم من أهل السلامة، ومن أهل الجنة، فيأتي الله جل وعلا فيغلق عنهم باب الرحمة، فينظرون إلى أهل الجنات وهم يسيرون كأجاويد الخيل، وكالريح المرسلة إلى الجنات فيقولون: {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} [الحديد:١٣]، يقول الله تعالى عنهم: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء:١٤٢]، {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:٣٠]، فهم يمكرون والله يمكر بهم في الآخرة، ويخادعون الله والله يخدعهم بأن يأتيهم ويرونه، ويحسبون أنهم من أهل الجنات، ثم يضرب بينهم وبين أهل الجنات، وبعد أن طمعوا بالجنة قطع طمعهم، وكان لهم الدرك الأسفل من النار، وهذه دلالة أيضاً على أن المنافقين أشد نكالاً وعذاباً من أهل الكفر.

<<  <  ج: ص:  >  >>