[الرد على القائلين بأنه لا إحياء ولا سؤال في القبر]
أولاً: استدلالهم بقول الله تعالى: {قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} [غافر:١١].
استدلال بالمفهوم، المفهوم مطروح غير معمول به، وإن كان مفهوم العدد عند علماء الأصول مختلف فيه، والراجح أنه يعمل بمفهوم العدد.
قال الله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور:٢]، ومفهوم المخالفة هنا أنه لا يجوز الزيادة على مائة جلدة، فنقول: هذا المفهوم غير معمول به، فقول الله تعالى: {قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} [غافر:١١] لا يعني أنه لن يكون هناك أكثر من حياتين أو قوتين، فإن الله قد أمات أقواماً أكثر من مرتين، وأحياهم أكثر من اثنتين، ومنهم الذي مر على القرية وذكره الله في قوله: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ} [البقرة:٢٥٩]، فأماته الله قبل أن يأتيه الأجل وأحياه مرة ثانية.
أيضاً صاحب البقرة الذي كان في بني إسرائيل عندما قتل عمه ليرثه، ثم أخذه وطرحه على مشرفة القرية، وقال: قتلوا عمي وأريد الدية، فالله جل في علاه حتى يبين لهم آية من الآيات أمرهم أن يأتوا ببقرة، فقال: {اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى} [البقرة:٧٣] فأحياه الله جل وعلا أكثر من مرة.
وأيضاً بنو إسرائيل أنفسهم قال الله فيهم: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ} [البقرة:٢٤٣].
وأيضاً أصحاب الكهف أماتهم الله ثلاثمائة عام: {ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا} [الكهف:٢٥].
وكثير من هذه الأقوام وهذه الطوائف قد أماتهم الله جل في علاه.
بل إن بني إسرائيل أمرهم موسى أن يقتل كل واحد منهم أخاه حتى يرضي الله جل وعلا عنهم حيث قال: {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ} [البقرة:٥٤]، ثم بعد ذلك قال تعالى: {ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة:٥٦]، فهذه أيضاً موت وإحياء، وفيها دلالة على أن هناك طوائف وأقواماً أماتهم الله أكثر من مرة وأحياهم أكثر من مرة، فمفهوم المخالفة هنا غير معمول به.
والرد الثاني: أن المقصود بقوله: {أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} [غافر:١١] أنه بعد الخلق، فبعد الخلق الموتة الأولى وهي موتة الأجل، والموتة الثانية بعد الإحياء من القبر، ويكون الإحياء الأول في القبر والإحياء الثاني عند البعث، فتؤول الآية بذلك حتى لا يشوش علينا أهل البدع والضلالة، ويثبت لنا أن الله يحيي المقبور، ثم يسأله، ثم بعد ذلك يتنعم أو يعذب.
أما الشبهة الثانية: قالوا: {لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الأُولَى} [الدخان:٥٦].
ونقول: هذه تأويلها أنه لا يتذوق الموت الذي هو كموت الدنيا إلا في الدنيا فقط أما في غيرها فلا؛ لأن الحياة البرزخية التي هي أول منازل الآخرة تغاير حياة الدنيا، ولا يصح قياس حياة الآخرة على حياة الدنيا، ولا اتفاق بين الحياة البرزخية وبين الحياة الدنيوية.
وأيضاً يمكن أن يقال لهم: إن الموت الذي يحدث في القبر ليس بموت، بل هو نوم، والدليل على ذلك أن الآثار صحت بأن الميت بعدما يبشر بالجنة يقول: رب! أقم الساعة رب! أقم الساعة، فيقال: نم كنوم العروس)، فيكون هذا تأويل على أنها نومة إذا تنزلنا في ذلك، لكن الإجابة الأولى هي الأقوى.
أما من ناحية النظر، فإذا قالوا: إن المقبور يتألم، وما نراه يتألم، ولا نراه يعذب، ولا نرى مطرقة على رأسه، ولا نرى الحيات التي تزعمون وتقولون.
نقول: هذه بالنسبة لله جل في علاه أيسر ما تكون، فهو إن أراد شيئاً قال له: كن فيكون.
وقبل أن نتكلم عن الحياة البرزخية نذكر شيئاً في الواقع المشاهد، فأحد الصحابة عاهد الله بصدق قلب -وقد كشف الله عن قلبه فوجده صادقاً- ألا يمس مشركاً ولا يمسه مشرك، فلما قتل في المعركة، حماه الله من أن يمسه مشرك؛ لأنه صدق الله فصدقه الله.
والقرطبي كان يؤمن جداً بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (باسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم) ويعلم أن الله جل وعلا على كل شيء قدير، ومرة ذهب العسكر للقرطبي يطلبونه، فلما قال هذا الذكر قال: والله! قد مروا أمامي ولم يروني، وهذا بقدرة الله جل في علاه.
والصحابي الجليل الذي أراد أن يتزوج عناق وكانت بغياً، وكان يخادنها قبل أن يسلم، فلما أسلم ورأته راودته عن نفسه، فذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! أريد أن أتزوج عناقاً، فأنزل الله جل في علاه: {الزَّانِي لا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً} [النور:٣]، إلى قوله: {وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [النور:٣]، فلما لم يتزوجها أخبرت المشركين أنه من جند رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: فقام القوم يبحثون عني، فوقفوا عند رأسي وجعل بولهم يأتي على رأسي ولم يروني.
فهذا واقع مشاهد، والله جل وعلا يعمي أبصارهم كما أعمى بصيرتهم فلم يروا هذا العبد، فما بالكم في أمر الآخرة؟! فأمر الآخرة لا يقاس عليه أمر الدنيا، والله جل وعلا يخفي عن الناس أمر العذاب وهو يعذب، ولو أن العباد رأوا هذا العذاب لانتهى الأمر، ولأصبح لا يوجد فرق بين الخبيث ولا الطيب فكل سيؤمن، والمكذبون حين يرون العذاب يقولون: {يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا} [الأنعام:٢٧]، وقد بين الله جل وعلا أن أرقى الإيمان هو الإيمان بالغيب، والله يقيناً سيعذب، فأنت تعلم أن ربك يحيي ويميت يقيناً.
والمقصود: نحن نؤمن بالغيب ونقول: إذا ثبت بالطريق الصحيح وبالسند الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم فنحن نسلم لذلك ونقول: سمعنا وأطعنا، وهذا الإيمان بالغيب يفرق بين عبد وبين آخر، وكلما ازداد إيمان العبد بالغيب ازداد يقينه في الله وارتقى عند ربه جل وعلا، وكلما قل كلما قل اليقين في الله، والإنسان يتعامل مع ربه بضعف يقين أو بقوة يقين، ونسأل الله جل وعلا أن يقوي يقيننا فيه جل في علاه.
وأيضاً لما قالوا: إن الرجل في القبر يعذب والآخر بجانبه يتنعم وهذا لا يعقل.
نقول: هذا يعقل في أمر الدنيا فما بالكم في أمر الآخرة؟! أما في أمر الدنيا: فإن الرجل ينام وبجانبه آخر، فيرزقه الله برؤية صالحة من المبشرات، والآخر يأتي الشيطان يحزنه، فالأول: يرى أنه يعانق الحور العين، ويأكل من ثمر الجنة، ويسبح في أنهار الجنة، بينما الثاني: يرى في منامه أن الشيطان يضربه، وأنه يقتل ويقطع، والألم يأتيه من كل مكان، ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت، وهل هذا يشوش على هذا؟! أبداً والله! فمن باب أولى أن يكون هذا مقراً في مسألة الآخرة.
فهذه الردود التي يرد بها على أهل البدعة والضلالة الذين أنكروا عذاب القبر.