[أدلة الفرق بين تكفير النوع وتكفير المعين]
الدليل الأول: حديث الرجل الذي قال لأولاده: (إذا أنا مت فأحرقوني ثم ذروني فلئن قدر الله علي ليعذبنّي) فهذا الرجل قد ملأ الأرض عصياناً، فعندما جاءه الموت شك في قدرة الله جل وعلا، ومع شكه في قدرة الله كان خائفاً من الله، راجياً فيما عنده، لكن اتفق علماء المسلمين على أن من قال: إن الله لا يقدر على شيء فقد كفر، لأنه مكذب للقرآن: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} [النساء:٨٧]، {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} [النساء:١٢٢] والله تعالى يقول: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:٢٠] فهذا تكفير النوع، لكن ذلك الرجل الذي أمر أولاده بحرقه بعثه الله فقال له كما بين لنا النبي صلى الله عليه وسلم: (ما الذي حملك على هذا؟ قال: مخافتك، أو قال: رجاء رحمتك، فغفر الله له وأدخله الجنة).
فالرجل أتى بكفر باتفاق علماء المسلمين، لأنه شك في ذات القدرة، لكنه كان جاهلاً فأتى بكفر مطلق، كفر نوعٍ لا كفر عين، فعذره الله بجهله ثم أدخله الجنة.
إذاً: من قال كلمة الكفر فليس بكافر، إلا إذا أقيمت عليه الحجة، وأزيلت عنه الشبهة.
الدليل الثاني: رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يلقب بـ حمار رضي الله عنه وكان يشرب الخمر فيؤتى به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيجلد، فقال بعض الصحابة: (لعنة الله عليه ما أكثر ما يؤتى به).
شارب الخمر يستحق اللعن؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لعن في الخمر عشرة، ومنهم: شاربها، وهذا لعن نوع عموماً، أما لعن العين وهو: إيقاع الحكم العام على عين الشخص فقد أنكره النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لمن لعن شارب الخمر (لا تعن الشيطان عليه؛ فإنه يحب الله ورسوله)، وفي رواية: (ما علمت إلا أنه يحب الله ورسوله)، فيدل هذا الحديث على أنه لا يستحق اللعن مع أن شارب الخمر ملعون.
فالمسلم قد يقع في الكفر والضلال المبين فيكفر بالقرآن، أو بالنبي صلى الله عليه وسلم، أو بالله جل وعلا ولا يحكم عليه بالكفر؛ لأن هناك موانع تمنع من تكفيره.
التأصيل الثاني: التكفير فارق بين النوع وبين المعين.
الدليل الثالث: من أقوال السلف: من قال بأن القرآن مخلوق فهو كافر، وهذا هو قول الإمام أحمد، لقد كان إمام أهل السنة والجماعة أحمد بن حنبل مفخرة المسلمين لما أخذه المأمون في فتنة القول بخلق القرآن واستدلوا عليه بقول الله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [الزخرف:٣] وقوله تعالى: {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [الأنعام:١] أي: أن الله خلق الظلمات والنور فقالوا: إن قوله: ((وجعلناه قرآناً عربياً)) يعني: خلقه قرآناً عربياً، فرد عليهم الإمام أحمد بقول الله تعالى: {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} [الفيل:٥] قال: هل المعنى: أنه خلقهم كعصف مأكول؟ لا، وإنما حولهم بالحجارة إلى عصف مأكول.
فكان الإمام أحمد يقول: من قال: القرآن مخلوق فهو كافر، ومع ذلك لم يخرج على المأمون؟ بل كان يصلي خلفه ويدعو له بالتسديد والتوفيق، ويرى ذلك واجباً عليه.
فإمام أئمة أهل السنة والجماعة يؤصل لنا هذا الأصل وهو أن ولي الأمر إذا أتى بمكفر فلا يكفر عيناً، وإنما يدعى له بالتسديد والتوفيق ويغزى معه؛ لأننا أمرنا بالغزو مع كل بر وفاجر.