ودفع بهم الغزاة إلى مواقع التأثير، وحركوهم في دولاب المواجهة المستمرة بأوجه عديدة بين الشرق الإسلامي والغرب النصراني، الذي ما فتئ من أيام الحروب الصليبية إلى اليوم يمارس أنواعًا من الصراع مختلف الأساليب متحد الغاية، ابتدأ بالصراع العسكري، ثم الفكري بالاستشراق والتغريب: (فمنذ استيقظ العالم الأوربي لنهضته الحديثة، وهو يرى عجبًا من حوله "أممٌ" مختلفة الأجناس والألوان والألسنة، من قلب روسيا إلى الصين، إلى الهند، إلى جزائر الهند إلى فارس إلى تركيا إلى بلاد العرب إلى شمال أفريقيا إلى قلب القارة الإفريقية وسواحلها، إلى قلب أوروبا نفسها تتلو كتابًا واحدًا يجمعها، يقرؤه من لسانه العربية، ومن لسانه غير العربية، وتحفظه جمهرة كبيرة منهم عن ظهر قلب، عرفت لغة العرب أم لم تعرفها، ومن لم يحفظ جميعه، حفظ بعضه، ليقيم به صلاته، وتداخلت لغته في اللغات وتحولت خطوط الأمم إلى الخط الذي يكتب به هذا الكتاب، كالهند وجزائر الهند، وفارس وسائر من دان بالإسلام، فكان عجبًا أن لا يكون في الأرض كتاب كانت له هذه القوة الخارقة في تحويل البشر إلى اتجاه واحد متسق على اختلاف الأجناس والألوان والألسنة، فمنذ ذلك العهد ظهر "الاستشراق" لدراسة أحوال هذا العالم الفسيح الذي سوف تتصدى له أوروبا المسيحية بعد يقظتها، وعلى حين غفوة رانت على هذا العالم الإسلامي، فكان من أول هم "الاستشراق" أن يبحث لأوروبا الناهضة عن سلاح غير أسلحة القتال، لتخوض هذه المعركة مع هذا الكتاب الذي سيطر على الأمم المختلفة الأجناس والألوان والألسنة، وجعلها أمة واحدة، تعد العربية لسانها، وتعد تاريخ العرب تاريخها، وبدأ الغزو المسلح وسار الاستشراق تحت رايته، وزادت الخبرة بهذه الأمم، فمن كان منها له لسان غير اللسان العربي، أعدت له سياسة جديدة لإغراقه في لسان الغازي الأوربي حتى يسيطر عليه، ومن كان لسانه عربيًا، أعدت له سياسة أخرى لإغراقه في تخلف مميت، لخصها وليم جيفور بلجراف (١) في كلمته
(١) هو: وليم بلجريف، ويقال: بالجريف، ولد سنة ١٨٢٦ م، وتوفي سنة ١٨٨٨ م، =