الديني، ولم تكن له أعياد ولا حياة اجتماعية إلّا مقترنة بالدين، فكان الدين عنده كل شيء، أمّا الآن فقد اتسع مدى مصالحه في كل البلاد الراقية، ولم يعد نشاطه مقيدًا بالدين، فوضعت المسائل السياسية تحت نظره، وقرأ وقرئ له عدد من المقالات في موضوعات متنوعة لا علاقة لها بالدين، وربّما لا تتعرض لوجهة النظر الدينية مطلقًا، كما أن الحكم عليها قد يكون مقيدًا بمبدأ مختلف عن مبادئ الدين كل الاختلاف، وهو يجد أن الرجوع إلى المحاكم الشرعية لا يغنيه شيئًا في كثير من مصاعب حياته ومشاكلها، بل يجد نفسه خاضعًا لقانون مدني قد لا يعلم له مصدرًا صحيحًا يستمد سلطانه منه، ولكن لا شك أن هذا القانون لا يستمد سلطانه من القرآن ولا من السنة، ولم يعد الدين هو الرابطة الاجتماعية الوحيدة أو على الأقل الكبرى بينه وبين إخوانه، إذ أن مهام أخرى لا تمت إلى الدين بصلة ترغمه على الالتفات إليها، وهكذا نرى سلطان الإسلام قد انفصمت عراه عن حياته الاجتماعية، وهذا السلطان ينحسر شيئًا فشيئًا حتى يقتصر على دائرة صغيرة من الأعمال.
حدث كثير من هذا في غفلة من الناس لم يفطن إلى إدراكه إلّا عدد قليل من المتعلمين، ولم يعمد إلى تحقيقه إلّا عدد أقل من ذلك، ولكن التيار سار جارفًا لا يلوي على شيء وحينما رسخت قدمه لم يعد رده ممكنًا، ويظهر من المستحيل الآن ولاسيما إذا راعينا ازدياد المطالبة بالتعليم والازدياد في اتخاذ الأنظمة الغربية أن تنعكس، وأن يعود الإسلام إلى استئثاره بالسلطة الاجتماعية والسياسية استئثارًا لا ينازع فيه) (١).
وهكذا وصف "جب" الموضوع وصفًا حقيقيًا وأوضح جوهر الصراع وأهدافه، توضيحًا عميقًا، ولو أن كاتبًا مسلمًا قال ذلك لقالوا: نظرية التآمر تسيطر على فكره، أو التخلف والجمود ومضادة الانفتاح، إلى غير ذلك من شتائم الجبهة العلمانية، ولكن أحد الذين مارسوا العمل التغريبي من خلال
(١) وجهة الإسلام: ص ٢١٧ - ٢١٨، وهو مجموعة من البحوث التي كتبها المستشرقون: هاملتون جب، وماسنيون، وكامبغمابر، وبرج، وفرار، ترجمة محمد عبد الهادي أوريدة.