للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

جبران، من الناحية التراثية، استمرارًا لتقليد عريق سامي عربي، فالموقف الأول السامي بعامة، والعربي بخاصة، هو الموقف النبوي. . . وللنبي، في التقليد الديني، خاصيتان متلازمتان: الأولى هي أن نبؤته مفهوم جديد أو رؤيا جديدة للإنسان والكون، والثانية هي أنها تنبئ بالمستقبل، وتتحقق، ويشير المعنى الذي اتخذته كلمة نبي في العربية، إلى أن النبي يتلقى الوحي، أي أنه ليس فعالًا بل منفعل يعطى رسالة فيبلغها، ولذلك يسمى رسولًا، أنه مستودع لكلام اللَّه، وليس فيما يقوله شيء منه أو من فكره الخاص، بل كل ما يقوله موحى من اللَّه.

والنبي راء وسامع لما لا يرى ولا يسمع، يرى المجهول والمستقبل، ويسمع أصوات الغيب. . . والنبوة بهذا المعنى، ليست كلامًا وحسب وإنّما هي عمل كذلك، فالنبي، هو أيضًا، يقاتل ويحارب في سبيل العدالة، ومن الأنبياء من يرى ملاكًا يكلمه، ناقلًا إليه الوحي، ومنهم، كموسى، من يكلمه اللَّه، مباشرة، وهذه حالة نبوية فريدة.

غير أن الصلة بين النبوة والجبرانية هي، الآن، ما يهمنا، الجبرانية هي جوهريًا، نبوة إنسانية، وجبران، بهذا المعنى، يطرح نفسه كنبي للحياة الإنسانية بوجهيها الطبيعي والغيبي، لكن دون تبليغ رسالة إلهية معينة، والفرق بين النبوة الإلهية والنبوة الجبرانية هي أن النبي في الأول ينفذ إرادة اللَّه المسبقة، الموحاة، ويعلم الناس ما أوحى له، ويقنعهم به، أمَّا جبران فيحاول، على العكس، أن يفرض رؤياه الخاصة على الأحداث والأشياء، أي وحيه الخاص.

وحين نفرغ النبوة من دلالتها الإلهية، نجد أنها الطريقة والغاية لنتاج جبران كله، فجبران يقدم مفهومًا جديدًا ضمن تراث الكتابة الأدبية العربية، للإنسان والحياة، وهو يوحي بما سيكون عليه المستقبل، وهو ليس منفعلًا بل فعال، وهو يرى الخفي المحجوب ويلبي نداءه، ويسمع أسرار الغيب ويعلنها) (١).


(١) المصدر السابق ٣/ ١٦٤ - ١٦٥. وانظر: ص ١٦٦.

<<  <  ج: ص:  >  >>