لعل هذا النص من أوضح وأشمل النصوص الحداثية التي توضح عناصر هذا الانحراف في تشبيه وتسمية الشعراء والأدباء بأوصاف النبوة وأسماء الأنبياء.
فهو -أولًا- يجعل النبوة مجرد تقليد ديني شرقي، وأنها تعبير عن رؤية جديدة للإنسان والكون، ثم هو -ثانيًا- يجعلها مجرد تلقٍ وانفعال، ورؤية وسماع للمجهول، وهو في هذا التوصيف الذي يريد أن يُظهر فيه موضوعية مزعومة، وقطعية مكذوبة؛ لا يخرج عن دائرة انحرافه في هذا الباب بدءًا من جحده وتكذيبه للنبوة والأنبياء كما سبق توثيقه، فهو بجعله النبوة تقليدًا دينيًا ينفي عنها أصل الاصطفاء والعصمة، وبجعلها رؤية جديدة للإنسان والكون يتجاوز الحقيقة في أن الرسل والرسالات جاءت بعقيدة واحدة، هي التوحيد المضاد للشرك، ولم يختلف في ذلك نبي عن آخر.
أمّا جعله النبوة مجرد تلقٍ وانفعال فهي ألفاظ تفهم في ضوء ما شرحه وبينه في كتابه هذا عن قضية الإبداع والحداثة القائمة على تجاوز التقليد والتلقي، التي جعلها من أسس التخلف والرجعية والثبات والتأخر.
ثم يفهم هذا المعنى في سياق وصفه لجبران الذي جعله من الخارجين على قضية التلقي والانفعال والتأثر؛ لأن لديه -على عكس الأنبياء- رؤياه الخاصة إلى الأشخاص والأشياء والأحداث وله وحيه الخاص.
وهو بهذا التوصيف ومن خلال هذه المعايير الجائرة الخاطئة يجعل جبران وغيره ممن سار على طرق المنافاة للدين أفضل وأعلى وأسبق وأعمق من الأنبياء، على افتراض أنه يؤمن -أصلًا- بوجود أنبياء ووحي ورسالة.
وينساق أدونيس في مسار باطني -بحكم عقيدته الباطنية- فيجعل ما يسميه "الرؤيا" أصلًا ينطلق منه لوصف جبران بأنه كاتب "رؤيويًا"، ويحدد ذلك بأن (الرؤيا في دلالتها الأصلية وسيلة الكشف عن الغيب أو العلم بالغيب)(١).
(١) انظر: كل هذه المعاني مفصلة في المصدر السابق ٣/ ١٦٦ - ١٦٩.