للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

كل نقد جذريّ للدين والفلسفة والأخلاق يتضمن العدمية ويؤدي إليها، وهذا ما عبر عنه نيتشه بعبارة "موت اللَّه"، وقد رأينا أن جبران قتل اللَّه هو كذلك -على طريقته- حين قتل النظرة الدينية التقليدية، وحين دعا إلى ابتكار قيم تتجاوز الملاك والشيطان، أو الخير والشر، والواقع أننا بعد أن ننتهي من قراءة "المجنون" نشعر أن ثمة تاريخًا من القيم ينتهي.

ومن الواضح أن جبران لا يحلل تحليلًا فلسفيًا أو علميًا القيم التي يهدمها وإنّما يعرضها بشكل يجعلها مشبوهة، فمتهمة فمرفوضة، إنه يحاول بتعبير آخر أن يظهر خطأ التفسيرات التي تقدمها الأديان والأخلاق التقليدية للعالم والإنسان فيما يدعو إلى محو المذهبية القيمية، ويؤكد على فاعلية الحياة والإنسان الذي يبتكر القيم الجديدة، الأخلاق التقليدية هي التي تعيش الخوف من اللَّه، وتنبع من هذا الخوف، الأخلاق التي يدعو إليها جبران هي التي تعيش موت اللَّه، وتنبع من ولادة إله جديد، إنه إذن يهدم الأخلاق التي تضعف الإنسان وتستعبده، ويبشر بالأخلاق التي تنميه وتحرره، إنه يهدم الأخلاق السلبية الانفعالية التي تتقبل الراهن الموروث من القيم، ويبشر بالأخلاق الإيجابية الفعالة التي تخلق هي نفسها القيم، إنه يريد بالتالي أن يحل محل الفكر المأخوذ بأخلاق المستقبل محل الفكر المأخوذ بأخلاق الماضي؛ ولهذا فإن كتاب "المجنون" دعوة لقلب نظام القيم) (١).

فأدونيس يثبت هنا إلحاده وإلحاد جبران وهم في ذلك ليسوا إلّا تبعًا لنيتشه (٢) الفيلسوف الألمانيّ الملحد، ويؤكد أن هذا الإلحاد هو عنصر الإيجابية والفعالية والإبداع والابتكار والتجديد، وهذا محور أساسي من محاور فكر أستاذ الحداثة الكبير وقدوة الحداثيين وأشباههم، فهو لا يفتأ يكرر مثل هذه المعاني داعيًا إلى تأليه الإنسان وجحد الخالق البارئ العظيم -سبحانه وتعالى-، فها هو يقول: (. . . إن جوهر الإنسان ليس في كونه مشروطًا بل في كونه يفلت من الشروط كلها، ليس في كونه مخلوقًا بل في


(١) الثابت والمتحول ٣ - صدمة الحداثة: ص ١٧٨ - ١٧٩.
(٢) سبقت ترجمته وذكر طرف من إلحادياته ص ١٢١.

<<  <  ج: ص:  >  >>