السابقة إلّا مرتين في مكانين متقاربين وزمانين متباعدين، المرة الأولى تجلت الحداثة في اليونان القديمة وأطلقنا عليها الحداثة الزراعية وكان ذلك قبل الميلاد بعدة قرون، والمرة الثانية تجلت الحداثة في القارة الأوروبية، وكان ذلك بعد الميلاد بكثير من القرون وأطلقنا عليها الحداثة الصناعية. . .) (١).
ثم عاد يتحدث عن الحداثة اليونانية قائلًا:(إنهم لأول مرة في التاريخ وقفوا في وجه فوضى الأسطورة، فجعلوا لها منطقًا خاصًا من جهة، ومنحى إنسانيًا من جهة ثانية، كانوا يأتون بالإله الشرقيّ ويجردونه من مظاهر الحيوانية ويعيدون إليه المحيا البشريّ والجسد الإنسانيّ. . . وقد جعلوا العلاقات بين الآلهة كالعلاقات بين البشر تقوم على التآلف والتخالف والتفرقة والتحالف والرضا والغضب، وكما تجد العلاقات بين الناس تجدها بين الآلهة فهم يأكلون ويشربون ويعربدون ويخونون زوجاتهم. . . فإدخال المنطق في الأسطورة فعل حداثيّ كبير جعل دراسة الأساطير لا تختلف عن دراسة الناس ونفسياتهم، والصيغة التي أدت إلى فعل الحداثة هي الصيغة الوثنية القائمة على التعدد والحرية. . . هذا الوضع. . . أدى إلى قيام الصيغة الوثنية التي أسقطت القداسة عن الملوك والآلهة ففتحت بذلك باب حرية الفكر، في حين لم تستكمل الوثنية صيغتها في الشرق. . . وقد ظهرت الوحدانيات الشرقية قبل أن تستكمل الوثنية صيغتها فاعتمدت على المقدس والمدنس في الدرجة الأولى وظهرت قوائم التحريم والتحليل. . .)(٢).
ثم ينعطف على ذكر الفلسفة الإغريقية فيقول: (لو نظرنا في مذاهبهم الفلسفية والأدبية لتبين لنا أن الصيغة الوثنية هي صيغة تعددية ظهرت فيها كل المذاهب. . . هذا النشاط الذي قام به الإغريق سميناه الحداثة الأولى أو الحداثة الزراعية ومازلنا حتى الآن نلجأ إلى استلهامها ولم نستطع أن نتجاوز الحدود التي وصلت إليها طبعًا في الأدب والمسرح والفلسفة والشعر. . .
(١) و (٢) مجلة الناقد، العدد الثامن، فبراير ١٩٨٩ م / ١٤٠٩ هـ: ص ٣٢ - ٣٤ من مقال بعنوان "مقاربة الحداثة" لحنا عبود.