استمرت الحداثة الأولى في فعلها طوال بضعة قرون تقريبًا إلى أن ظهرت الوحدانية المسيحية في الشرق، وما كانت الوحدانية أن تظهر إلّا في المشرق حيث لم تستكمل الوثنية صيغتها ولم تتخذ كامل أبعادها كما لدى الإغريق، وقد تمكنت هذه الوحدانية من التسرب إلى الغرب والانتشار في الطبقات الدنيا من عبيد وجنود وخدم وحراس قصور، حتى أن الامبراطور قسطنطين وجد نفسه يقود جيشًا من الوحدانيين المسيحيين فأعلنها ديانة رسمية، وبذلك تحولت الدولة إلى مؤسسة تخدم وتستخدم الوحدانية المسيحية فتفرضها فرضًا، مما جعل القداسة والدناسة دستورًا واحدًا تحظر مخالفته، ومما جعل الصيغة الوثنية تتراجع تراجعًا شبه نهائي في أواخر القرن الخامس، وحلت محلها الصيغة الوحدانية المسيحية التي دشنت فاتحة العصر الوسيط في حوض البحر المتوسط، عصر سيادة الوحدانيات، وهو العصر الذي بات رمزًا لكل ما هو جامد ومتخلف، ولم تقدم الوحدانية أي مظهر من مظاهر الحداثة، بعد أن عملت على سيادة الإيمانية والتسليمية. . . من أهم مفردات الوحدانية التقديس والتدنيس والتحليل والتحريم وهي مفرزات إيمانية بعد أن تحول التقديس إلى عصمة وتحول التدنيس إلى إدانة، فدخل حوض البحر الأبيض المتوسط في عصر المحظورات والممنوعات المادية والمعنوية) (١).
ثم يستدرك على نفسه مبينًا أن الوثنية انتشرت من جديد وأنها هي التي ورثت للدنيا العالم الحديث فيقول:(والحقيقة أن الصيغة الوثنية وجدت لها ملجأ في بيزنطة، فكمنت فيها مع ما بقي من آثارها، وقد كان لها نشاط إلى هذه الدرجة أو تلك، ولولا بيزنطة لما كان هناك ما نطلق عليه العالم الحديث فقد احتفظت بالمؤلفات والآثار الوثنية ولكن بيزنطة كانت محاوطة بالوحدانية المتشددة شرقًا وغربًا مما أجهض كل المحاولات الساعية إلى إعادة الصيغة الوثنية)(٢).
(١) و (٢) مجلة الناقد، العدد الثامن، فبراير ١٩٨٩ م/ ١٤٠٩ هـ: ص ٣٢ - ٣٤ من مقال بعنوان "مقاربة الحداثة" لحنا عبود.