ثم يتحدث عن وحدانية الإسلام ودور المسلمين عند فتحهم للقسطنطينية فيقول:(وظلت الحداثة مغيبة عن حوض البحر الأبيض المتوسط طوال العصور الوسطى، وعندما استطاعت الوحدانية التركية أن تدك حصون القسطنطينية وجهت ضربة أليمة إلى بيزنطة، ولكن بيزنطة المنكوبة قدمت للعالم الأوربي أعظم هدية يعرفها التاريخ وهي مؤلفات اليونان والرومان وتراثهم الوثنيّ الذي حمله علماء بيزنطة المهاجرون إلى الأقطار المجاورة وإيطاليا على وجه الخصوص هربًا من الوحدانية التركية المنتصرة.
ليس غريبًا أن تبدأ النهضة الإيطالية ثم منها الأوربية في أعقاب سقوط القسطنطينية فقد كان التراث اليونانيّ أشبه بلمسة سحرية أيقظت العقول والنفوس، وهنا يُمكن أن نسأل: لماذا لم يستطع التراث الوحدانيّ أن يفعل ما فعل التراث اليونانيّ مع أن الأول أنتج من الآثار الشيء الكثير؟) (١).
ثم يجيب على هذا السؤال بقوله: (إن كل الدعوة الوحدانية المسيحية تنحصر في تحرير الجسد وتلبية مطالبه ولكن في عالم غير هذا العالم الذي ختمت عليه بالإدانة وبأنه عالم الفساد والشرور، وأن على الإنسان أن يتألم ويزهد في هذا العالم ليحيا في العالم الآخر حياة النعمة. . . فالوحدانية تتناقض كل التناقض مع الحرية، إن وحدانيتها تحول دون تحقيق وعودها فلا حرية مع الوحدانية. . . لذلك نجد النهضة الأوربية حاولت إعادة الصيغة الوثنية التعددية، فقد وجدت فيها التعبير الأكمل لحرية الإنسان فكرًا وجسدًا وهنا تبدأ الحداثة الثانية. . .، ويُمكن تلخيص مطالب الحداثة الصناعية بمطلب واحد هو تحرير الإنسان ليس فقط من الوحدانية بل أيضًا من المشاريع الكبرى التي تبين أنها مشاريع ساحقة للإنسان. . . وقد كانت الدعوة إلى الصيغة الوثنية واضحة كل الوضوح لدى رجال النهضة. . . إن الظروف الصناعية عدلت الكثير من الصيغة الوثنية للحداثة الزراعية ولكنها أبقت على نواتها الأساسية، أمّا النواة الأساسية التي أبقت عليها فهي إسقاط
(١) مجلة الناقد، العدد الثامن، فبراير ١٩٨٩ م/ ١٤٠٩ هـ: ص ٣٢ - ٣٤ من مقال بعنوان "مقاربة الحداثة" لحنا عبود. وانظر له أبشع من هذا الكلام وأخطر في كتابه "الحداثة عبر التاريخ مدخل إلى نظرية": ص ١٩٦ - ٢٠١.